الشيخ حسين شحادة :فقيه التغيير
2022 ,28 حزيران
الشيخ حسين شحادة...و الدكتور عبدالحسين شعبان.
 
*د.عبد الحسين شعبان.
صوت العرب: بيروت – لبنان.
(الحلقة السادسة)
سمته الثالثة الروحانية، فهو فقيه الروح وكل روح حيّة توّاقة إلى التغيير، إضافة إلى كونه فقيه الواقع والجمال، فلا قيم ولا مثل دون روحانية إنسانية منفتحة ودون استعداد لقبول الآخر، ولعلّ في الروح موسيقى عذبة تأخذك من الواقع إلى الخيال وإلى اللّانهايات إلى الآخر، المختلف، إلى الإنسان إلى الجمال والكلمة الحلوة والحرف الجميل، فقد كانت كلماته تتراقص بعذوبة ورقّة فتأتي تعبيراً عن الحياة ذاتها، عميقة بقدر ما هي مثيرة ومحبوكة، ما يقوله أقرب إلى الشعر، وقد خبر المدرسة العقلية، حتى الحروف تبدو مشعة ومنيرة، خصوصاً وقد كرّس اهتمامه بالتنوير والتغيير والتجديد والحركة والخير، لأنه يعرف أن التحجّر والتكلّس والجمود ليس سوى القبح والشر، في العقل والسلوك.
الشيخ حسين شحادة يتغيّر، ويعرف ذلك، لأنه يدرك معنى ذلك، فتراه لا يتوقف عند فكرة أو رأي أو موقع، حتى وإن دافع عنه، لكنه سيتجاوز موقفه هذا إذا شعر أن الزمن تغيّر، وحتى لو كان هدفه واحداً، لكن وسيلة الوصول لتحقيق هذا الهدف ستكون مختلفة، وتلك سنّة حياتية وناموساً كونياً.
وكثيراً ما تداولت معه في أمور كثيرة في الدين والفقه والفكر والشعر والأدب والثقافة وأحياناً في السياسة ووجدته وغالباً ما كان يفاجئني بدرجة انفتاحه وتقبّله للآخر ففكره يقدح باستمرار، ومستعد لتغيير باقة من آرائه وأفكاره كلما أعتقد بصواب وإخلاص الآخر، لم يتعصّب لرأي أو يتشبّث بفكرة على قناعته بها، لأنه سيعتبر أن ثمة وجه آخر يمكن أن يكون صحيحاً حسب الإمام الشافعي، لذلك فهو يتقبّل التغيير الذي يعتبره قانوناً حياتياً للإنسان والطبيعة، ولعلّي كنت في مطارحاتي معه غالباً ما أستذكر نيتشه الذي يقول: على الإنسان أن يغير آراءه مثلما تغيّر الحيّة جلدها، بمعنى أنه على الإنسان أن يتغيّر بتغيّر الأزمنة، وغالباً ما نستذكر قول الإمام علي " لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
فحسب هوغو "إنه لثناء باطل أن يُقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغيّر منذ أربعين عاماً، فهذا يعني ان حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث. انه كمثل الثناء على الماء لوجوده وعلى الشجرة لموتها"، فالذين لا يتغيرون لا يفعلون شيئاً، وبما أن الحياة متغيّرة اقتضى الأمر أن تتغيّر أفكارنا، لاسيّما باكتشافنا معطيات جديدة واطلاعنا على معلومات لم تكن متوفرة قبل ذلك.
"رجل الدين" الاستثنائي، ولا وجود لرجل دين في الإسلام، إنه باحث في سسيولوجيا الدين وعلومه وأصوله وفروعه وعلاقة ذلك بالواقع والإنسان وسعادته وعلم الكلام والمنطق والحق الديني، شخص اعتيادي، تأملي وعملي في الآن، رؤيوي ومؤمن بالبراكسيس. إنه تجريبي، لكنه لم يكن تائهاً منذ أن اختار التجربة، بل يرى، يجرّب ويكتشف، ينتظر ويحاول، ينجح ويفشل، لكنه ظلّ مخلصاً لعلاقة العلم بالدين وهو يخضع كل شيء للاختبار.
الشيخ حسين حالم ومتأمل ينظر بعيداً بأفقه الواسع فيرى تلك الفيافي الوسيعة وكأنه فوق قمة جبل يتدرّج في نظره من القمة وحتى القاعدة، وهو وإن كان حزيناً لما أصابنا لكنه ليس يائساً كما أعرف حتى وإن كان متشائماً، لكن تفاؤله يبقى قائماً، إنه "تفاؤل الإرادة في مواجهة تشاؤم الواقع"، على حد تعبير المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، لأنه يدرك أن كل ما حولنا مدعاة للتشاؤم، وهذا الأخير سبباً في مقاومته وتمسكنا بالتغيير. وغالباً ما أسمع صوته وهو ينتقد ما حوله ونفسه أين نحن وأين أصبحنا؟ 
ولعلّه دائماً الترداد لقول شكيب إرسلان " لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم"؟، وهو الذي يطرح أسئلة النهضة بركنيها الحرّية والتنمية، جناحان لا يمكن التحليق دونهما، وتلك كانت رسالة مجلة المعارج التي أشرف عليها بمساعدة زميلته المخلصة لأكثر من ربع قرن هند نوري عبيدين التي اختطفها ذلك القدر الغاشم في ليلة حالكة السواد وأعرف أنها رافقته خطوة خطوة وحرفاً حرفاً.
نُبل المقاصد
كنتُ دون أن أدري ينبّهني البعض إلى مقالاتي المنشورة في مجلة المعارج والتي حرص الشيخ حسين وهو في مقامه المهيب في السيدة زينب وفي مهجعه أو خلوته في بلودان، إلّا أن يضع اسمي في قائمة الهيئة الاستشارية. وأقول للأمانة أنني كنتُ مقصّراً معه، فهو غالباً ما يعيد نشر مقالاتي ودراساتي، ونادراً ما كنت أرسلها له مباشرة، لكن كرم أخلاقه ونبل مقاصده ومحبّته الصادقة هي التي تغمرني دائماً بالاعتراف، وغالباً ما كان يقول أنه نجفي، وللنجف فضل عليه، وهو ما كرّره العالم الجليل السيد محمد حسين فضل الله أمامي أكثر من مرّة بفضل النجف عليه، وهو المفكر الإسلامي المجدّد، الذي أعاد النظر بالعديد من الأطروحات التي كانت تدعو لدولة الإسلام إلى دولة الإنسان، وهو ما تبنّاه في السنوات العشر الأخيرة من حياته، وما سار عليه نجله الفقيه السيد علي فضل الله في تعميق التفكير بالدولة المدنية التي تضمّن المساواة المتكافئة والمواطنة المتساوية للجميع، في إطار الحق والقانون والإقرار بالتنوّع والتعددية، وكانت تلك دعوته الكريمة لي لإلقاء محاضرة بهذا الخصوص في محفله الفكري والثقافي وبحضور شخصيات نافذة من المؤسسات التي يشرف عليها. 
وصدق السيد محمد باقر الصدر حين قال يوم مغادرة السيد محمد حسين فضل الله النجف التي ولد فيها وقضى نحو 33 عاماً من عمره في ربوعها، كل من خرج من النجف خسرها إلّا السيد فضل الله فعندما خرج منها هي التي خسرته (1965).
ليست النجف أو العراق كريمين مع السيد فضل الله أو الشيخ حسين شحادة أحد تلامذته النجباء والأوفياء، ولكنني أعرف فضل لبنان عليهما، فلولا لبنان لبقي فضل النجف والعراق عليهما محدوداً بحكم بيئتها وإن كانت الومضة الأولى وقدحة الشرارة المثيرة فيها، إلّا أن لبنان وأجواء الانفتاح والتنوّع والتعددية والحرّيات وفّرت بيئة خصبة لتلقيح أفكار فضل الله والشيخ حسين مستفيدان من الواقع الفسيفسائي والموزائيك الجديد والأفق الأوسع. 
وكنت أقول أن فضل لبنان عليّ كبير أيضاً، حين نلت من ثقافته في مطلع شبابي، وفي الستينات نهلت الكثير من المعرفة منه، لاسيّما خلال زياراتي العديدة، وهو ما كتبته حين تم تكريمي من قبل الحركة الثقافية في انطلياس العام 2017 كأحد أبرز رموز الإعلام والثقافة في العالم العربي. وذلك بعنوان: "بيروت وأرخبيلات العشق".
وشوشات النجف
كنت أحثُّ الشيخ حسين وقبله السيد هاني فحص على إخراج النجف التي في داخلهما، وكأنني بذلك أريد استفزاز نجفي الخاصة وليس نجفهما فحسب، وبعد سنوات هاتفني السيد فحص لأسمعه يرقص من خلف الهاتف ها قد أخرجت نجفي فأين نجفك التي ظلّت توشوشك كما تقول، وهو ما كتبه لي في إهدائه لكتابه الموسوم " ماضٍ لا يمضي"، دار المدى، بغداد، 2008، حيث عكس اهتماماته النجفية بشكل خاص في فترة دراسته في كلية منتدى النشر (1968-1972). وأعرف أن عالم النجف ليس يسيراً فهي مدينة مركّبة بقدر ما هي مفتوحة فإنها مغلقة أيضاً وبقدر ما تتقبّل الآخر وتمنح الغريب مكانه اللائق محتفية به، لكن ثمة خفايا وأسرار يصعب على الوافد أن يغوص فيها، إلّا أن السيد هاني فحص حاول ملامسة بعضها.
وأصرّ الشيخ شحادة على أن أستجمع "هذه النجف التي توشوشني" وهو عنوان مقالة لي منشورة في جريدة الجريدة الكويتية 14 اغسطس (آب) 2009، فقرّر جمع وتبويب كل ما كتبته عن النجف من فصول ودراسات ووجدانيات وذكريات وسرديات ليصدر عدداً خاصاً من مجلة المعارج، مخصصاً لي كشهادة عن النجف، لكن اضطراره لمغادرة دمشق بعد العام 2011 بسبب الأحداث واستشراء العنف وتوقف المجلة عن الصدور، فتم تأجيل الموضوع، وعندما عاود مرّة أخرى وهو في بيروت، تكاسلت وتقاعست، وهو أمر يؤنبني ضميري عليه كثيراً، فالوقت لا يدرؤك إلّا الكسالى.
رسالة المعارج
أودّ هنا التوقّف عند رسالة مجلة المعارج التي تقوم على ستة زوايا فكرية وثقافية أساسية هي:
الزاوية الأولى - الإيمان بالحوار وهو حوار مفتوح ومسؤول في الآن ذاته، لإعلاء قيم التكامل الإنساني والعيش معاً بشراكة، فضلاً عن أنه يبدأ من الإقرار بالتنوّع والتعددية. فالحوار في ظروفنا يصبح ضرورة لا غنى عنها وليس ترفاً فكرياً أو نزوة عابرة أو دعوة أكاديمية باردة، وبقدر ما هو ضرورة فهو خيار طوعي أيضاً، لأن غيابه سيعني الصدام والتناحر الذي سيكون إلغائياً وإقصائياً وتهميشياً، وقد عانت شعوب أمتنا العربية من ذلك كثيراً ودفعت بلداننا أثماناً باهظة.
الزاوية الثانية - الإيمان بقيم السلام والتسامح وإعلاء شأن الإنسان "سيد المخلوقات" على هذه الأرض التي كرّم بها الله بني آدم (سورة الإسراء، الآية 70) والتسامح حسب فولتير يعني عدم التسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية، في حين أن عدم التسامح قد ينشر المآسي على وجه الأرض. وإن التبعية المتعصبة والعمياء لرجال الدين حوّلت أقوالهم البشرية إلى شرائع مقدسة، لكن ذلك السلوك أدى إلى المجازر، ودعا فولتير في مقابل ذلك إلى تعليم الفلسفة بالنظر إليها شقيقة الدين، وهي من نزعت السلاح من أيدي من غرقوا في معتقداتهم الباطلة، فأفاقت العقول البشرية من سباتها. ويقول فولتير: كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي، فإن لم يكن رأيه صائباً فلا تكنْ أنت على خطأ تتشبث برأيك. والتسامح يعني قبول مبدأ المساواة والتكافؤ بغض النظر عن الاختلاف القومي والديني واللغوي أو بسبب اللون والجنس والأصل الاجتماعي.
الزاوية الثالثة - إعلاء قيمة الحرّية، لأنها تسمو على جميع القيم الإنسانية، وهي المدخل الضروري للحريات والحقوق الأخرى، ولاسيّما حرّية التعبير والرأي، وبدونها لا يمكن حتى الدفاع عن الحقوق الأخرى، وتأتي بعد حق الحياة والعيش بسلام وبدون خوف. وكنتُ في إحدى المرّات أنقل إليه قول وليم هازلت " حبّ الحرّية هو حب الآخرين وحب السلطة هو حبّ أنفسنا" وقصدت منه أن الشيخ حسين يعشق الحرية ويعتبرها ملازمة للحياة وهو يقدمها على جميع أمور الدنيا، ولذلك وحسب تجربتي الشخصية معه ومطارحاتي بالعام والشخصي وجدته لا يميل إلى السلطة قطعاً، بل شديد النفور منها، ومن أي سلطة، بما فيها " السلطة الدينية"، إنه يريد أن يبقى حرًّا طليقًا مغرّدًا على هواه دون إكراه أو إتمام.
وعن وليم هازلت فهو كاتب وناقد أدبي وفيلسوف انكليزي (1778-1830) ويعتبر من كتّاب المقالات المرموقة، إضافة إلى عدد من الكتب التي أصدرها، بما فيها التي جُمعت عن شخصيات شكسبير.
الزاوية الرابعة - الإيمان بالمساواة بين بني البشر ونبذ الاستعلاء والتعصّب الديني ووليده التطرّف والزعم بامتلاك الحقيقة والأفضليات. وهي دعوة لازمت مجلة المعارج في اختياراتها وانتقائها للمقالات كجزء من توجهاتها العامة. وقد رافقت هذه الدعوة دعوة أخرى مماثلة متممة ومكمّلة وأساسية في الوقت نفسه ضد الطائفية والتمذهب ومحاولة لتفكيك الخطاب الطائفي والعنصري، بتقديم نقيضه الذي يعلي من شأن العروبة الثقافية التي تسمو على الانقسامات الطائفية والدينية التي هي رابطة وجدانية وانتماء شعوري وفطري جامع لأمة مجزّأة تسعى لتحرّرها ووحدتها، ناهيك عن الأخوة الإسلامية والأخوة الإنسانية، فلا فرق بين دين وآخر، أو طائفة وأخرى إلّا بقدر ما يمكن أن يغني الإنسانية ويرفع من شأن القيم المشتركة كالحرية والمساواة والعدالة والشراكة والسلام والتسامح وهي التي تعني بني البشر جميعاً ودون استثناء، وسيكون أي انتقاص منها يعني الانتقاص من إنسانية الإنسان. والقارئ لمجلة المعارج على مدى ربع قرن وما يزيد يلاحظ الخيط الناظم لتلك القيم المنظومة كأنها حبّة مسبحة متساوية تقف على رأسها قيمة الحرية (الشاهول).
وقد أبدى اهتماماً كبيراً بالمشروع الذي طرحته لـ: "تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة" باعتبار الأخيرة ركناً أساسياً للدولة العصرية، والتي لا غنى عنها للتقدم والتنمية، واعتبر فكرة تحريم الطائفية إضافة حقوقية مهمة إلى تعزيز القيم الإنسانية المشتركة، لاسيّما بنبذ التعصّب والتطرّف، ومنتجاتهما من العنف والإرهاب لأسباب دينية أو طائفية أو إثنية أو لأي سبب آخر بزعم امتلاك الحقيقة.
ثم أرسل لي تغريدة تقول: إن قضية " الأقليات" الشيعية أو " الأقليات" السنّية أو "الأقليات" المسيحيّة في حوض البحر الأبيض المتوسط ليست قضية طائفية أو مذهبية، إنها بجوهرها قضية المواطنة الكاملة والمتساوية وهي من قبل وبعد قضية العدالة المذبوحة وحقوق الإنسان المضطهد في وطنه. ووجدته معلِّقاً أيضاً بقوله: الطائفية قفص ديني يلعب فيه الساسة بعقول المتديّنين، والمتدينون يتنابزون بالألقاب ويعبدون أصناماً من لحم ودم، إنها عصب القبيلة وجهالتها يا صديقي تحت عباءة دينية.
الزاوية الخامسة - في مشروع الشيخ حسين شحادة التاريخي التنويري، وفي مجلة المعارج التي مثّلت جزءًا منه كان للعقل قيمة عليا، فالحوار والحرية والسلام والتسامح ونبذ الاستعلاء الديني والتفوق الطائفي، كلّها تستند إلى العقل والعقلانية جزء من مشروع الحداثة المشفوع بالحرّية التي يؤمن بها الشيخ حسين، وهي إحدى رسائل مجلة المعارج. وبعد ذلك فإن غياب العقل يعني سيادة الجهل والجهل أس البلاء والاستبداد الذي ينتج التعصّب والتطرّف ووليدهما العنف والإرهاب.
وقد كانت مجلة المعارج حقلاً من حقول الكفاح الفكري والثقافي للتصدي لثقافة الكراهية والانتقام والأحقاد التي غذّت الإرهاب والعنف، وساهمت في بناء التنظيمات الإرهابية من القاعدة إلى داعش إلى جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) وأخواتها، تلك التي عاثت بالأرض فساداً واستغلت من جانب قوى دولية وإقليمية لإثارة الفتن الطائفية والدينية في العراق وسوريا ولبنان ومؤخراً في اليمن وليبيا والعديد من البلدان العربية، وأستطيع القول أن صوت المعارج كان متميّزاً في هذا الحقل، متّخذة من قيمها الإنسانية الأساس في كفاحها ضد العنف والإرهاب، مثلما هي ضد التعصّب والتطرّف. ولعلّ كل انتماء إلى العقل يعني انتماء إلى دائرة الاعتدال.
الزاوية السادسة - ربط الشيخ حسين أهداف مجلة المعارج وهويتها بدوائر ثلاث أساسية:
الدائرة الأولى- العروبة التي تشكل المناخ الطبيعي والهويّة الجامعة وهي أحد الدروس المستخلصة من التجربة التاريخية ودائرته الثانية- الإسلام بمعناه الحضاري، أي مثل وقيم وهوية وليس تعاليماً وطقوساً، بعضها لم يعد صالحاً لعصرنا. أما دائرته الثالثة- الإنسانية، ولا يمكن للمرء أن يكون عروبياً حقيقياً ومسلماً صادقاً دون أن يكون إنسانياً، مؤمناً بحق الأديان الأخرى والقوميات الأخرى والإنسان الآخر دون تعسف أو إكراه، و"الإنسان هو مقياس كل شيء" على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، وهكذا فإنه والمجلة ينتميان إلى الهويّة الجامعة وهو القائل "انتفخ طاووس الأنا فتمزّقت الهويّة" بمعنى الهويّة الضيقة غير القابلة لاحتضان الهويّات الفرعية في إطارها أو التفاعل معها.
يقول الشيخ حسين في تقييمه الشخصي لمجلة المعارج: " من الصعوبة بمكان توصيف المعارج بكلمة، فهي عمري الذي مشيت به على الجمر" ويقول عنها أيضاً: "كنّا نكدّ ونشقى وكانت المعارج تعيش تحت قسوة الحوار الصعب وتصرخ ضد الجهل وضد الخوف وضد الفتن العمياء وضد القطيعة وضد كسرى وقيصر".
أما بشأن الهويّة، وكان قد تجاذب أطراف الحديث معي حول كتبي عن الهويّة ابتداء من كتابي "من هو العراقي"؟ (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2002)، فقد كانت جزءًا من انشغالاته، خصوصاً وقد انفجرت في السنوات الثلاثين الأخيرة على النطاق العالمي، لاسيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتحلّل الاتحاد السوفييتي، وما تزال الهويّة شغلنا الشاغل في العديد من اللقاءات والحوارات وجزء حيوي من مشروع ملتقى الأديان والثقافات للحوار والتنمية الذي يشغل موقع أمينه العام وهو برئاسة ورعاية السيد علي فضل الله. 
وقد سألته عن الفوضى الطائفية والدينية التي عمّت المنطقة والانقسامات وأعمال العنف التي صاحبتها فعلّق قائلاً: إن هذه الفوضى أنتجت مرجعيات وحركات تنادي بخطاب القطع والكراهية والتكفير... وأضاف لا يمكن للحوار الديني أن يكون منتجاً إلّا بمقدار استجابته لحاجات الواقع وتحدياته ليكوّن معهم المرجعية الأخلاقية نهجاً طبيعياً في أسلوب حياتنا المهمومة بمستقبل الأبناء والأحفاد.
واختتمَ بمقولة مهمة تصلح عنواناً لبحث أو ندوة فكرية "مذهبك الديني صفحة من كتاب من ألف مذهب فاكسر أقفال التعصّب، انظر في كتاب الكون واقرأ" وهي تصلح للحديث عن الخصوصية والكونية والانغلاق والانفتاح. أما بشأن الطائفيين فيقول مخاطباً الإنسان ووجدانه: "لا تسرج نور مصباح بزيت طائفي فينكسر" وكنت قد تناولت معه مرات عديدة "الثقافة الطائفية" التي تغذي التعصّب، فأكمل: وعلى إيقاع هذه الصراعات العقدية والثقافية طفحت المكتبة الدينية والسياسية بآلاف الكتب والمجلدات المتخصصة بتكفير الآخر أو تخوينه داخل البيت العربي والإسلامي الواحد لتبلغ الصدامات أوج قمتها الدموية في مطلع القرن الحالي وحتى اللحظة الراهنة.
وعن التكامل الديني ووظيفة الحوار والمشترك الإنساني كما يسميه قال: إن الأديان السماوية متكاملة وأن نصوصها قد أنتجت وظائفها الروحية والإنسانية، إلّا أن معرفتنا بالتراث الديني ونصوصه ما زالت ملتبسة بمشكلتين: إحداهما - مشكلة الاختلاف على مصادر تلك النصوص ومناهج قراءتها تفسيراً وتأويلاً. ثانيهما - مشكلة المعرفة الموضوعية بتراثنا الديني ومشتركاته ما تزال في طور الإعلان عن مقدماتها التأسيسية وغير مكتملة.
ولذلك فهو يدعو إلى تخليص المشترك الإيماني من سهام التشكيك والتشكيك المضاد ما يعني العودة إلى السؤال المقصود من وظيفة الحوار الديني وجدواه: أيكون حواراً يوضح ويجلو مشكلات التفكير في أزمة المعرفة بالدين؟ أم يتجاوز حوارات العقائد والتاريخ ليبدأ من وظائفها وأغراضها، أي من حوار الحياة انطلاقاً من الواقع الديني الراهن وتحدياته المؤلمة؟ ويضيف: وفي هذا المجال هل يملك الحوار الديني إمكانات التأثير في واقعه؟
وعن نتائج الحوار الديني وهل أدى غرضه قال: علينا أن نعترف أن الحوار الديني لا يزال عاجزاً بقدراته المحدودة عن تحقيق طموحاته في إنجاز السلم الأهلي والاجتماعي فيما التيارات المعاكسة تراكم قوتها العنفية بمشاريع سياسية تخطف آمال الحوار في التأثير والتغيير، ولكن ماذا عن الشعوذة الدينية التي سادت في فترة ما سمّي الفورة الدينية أو الصحوة الإسلامية التي جلبت معها ممارسات لا علاقة لها بالدين وقد استفحلت إلى درجة كبيرة في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية ولدى مختلفة الطوائف، فكان رأيه مختصراً في الحديث عن الحاضر الراهن بقوله: لنلاحظ بعض المشعوذين باسم الدين: إن كورونا لا يقترب من المساجد والكنائس وعتبات الأولياء والقديسين ولا يمسّ أجساد المؤمنين والصالحين، قلت كورونا ليس شيطاناً ولا هو من الجن ولا من الأبالسة فينتهي خطره عند حدود الوسوسة فنصدّها بمناعة الإيمان، إنه فيروس عدواني قاتل لا يستثني أحداً من غدره، فقوا أنفسكم وأهاليكم شرّه المستطير.
وكنت قد بحثت معه كثيراً في موضوع فساد المؤسسات الدينية بمختلف أنواعها وهو ما أصبح شائعاً مالياً وإدارياً وسياسياً، لاسيّما انخراطها في أعمال الرشا والعنف والميليشيات والإرهاب التي أصبحت تزكم الأنوف، وهو أمر لم يكن بهذا الاتساع والشمول كما حدث في العراق وعدد من البلدان العربية والإسلامية، خصوصاً بعد الاحتلال الأمريكي، فقال "فساد المؤسسات الدينية ليس مبرّراً للكفر بالدين والفساد السياسي لا يبرر الكفر بالوطن".
وعن لبنان قال لا نريد في زمن الانقسام وتجزئة قضايانا الوطنية أن يرتد كل منّا إلى طائفته الدينية أو حزبه السياسي فما أحوجنا اليوم أن نلملم جروحنا ونعتصم بالوطن الواحد الذي تدفقت من ينابيعه الصافية معجزة السلم الأهلي في لبنان.
* اكاديمي ومفكر.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون