*إقصاء حب بهاء طاهر الروائي للتمسك بـ"المنفى" مسرحيًا.
2024 ,20 آب
المقال الفائز بجائزة أفضل مقال نقدي في المهرجان القومي للمسرح المصري، في دورته ال١٧ دورة سيدة المسرح العربي "سميحة أيوب".
منار خالد :صوت العرب – القاهرة.
تتفق الرواية مع المسرحية أن كليهما في الأغلب يدور من خلال حبكة درامية، لكن فضاء الرواية دائمًا ما يحكمه السرد أكثر، بينما النص المسرحي يحكمه عناصر مرئية، يشغله الفضاء والسينوغرافيا انشغالًا لا يقل عن الحدث والشخصيات شيئًا بل يزيد، نظرًا لكونه يُكتب كي يُعرض على خشبة مسرح، لذا فعند القيام بتحويل رواية إلى مسرحية، أو في قول مصطلحي آخر عند "مسرحة الرواية" ينشغل الكاتب بتحويلها آنية حتى لو كان زمن الحدث ماضيًا، يشغله الإيقاع والعناصر البصرية، حيث متلقيها الذي حدوده تلك الرؤية، عكس متلقي الرواية وحدوده اللانهائية من الخيال الذي يطرحه الكاتب داخل فضاء الورق المكتوب، كما أن للمسرحية شخوص ذات إيماءات وتفاصيل شكلية وجسمانية تحكمها سياقات زمنية ومكانية مهما اتسع تأويلها يظل يحكمها حدود وإطار، بينما في الرواية فهو اتساعًا لا حدود له من تخيل شكل تلك الشخصيات والحركة والأماكن، إضافة لإمكانية ترك العمل والعودة له وقتما أراد المتلقي، وذلك ليس بأفضلية أي منهما على الآخر، بينما هو اختلاف أجناس أدبية مبني على عناصر تتشابه في مواضع وتختلف في أخرى للفصل بينهما. 
ومن ماهية الأجناس الأدبية والفرق بينها تطرق المخرج المسرحي السعيد منسي مؤخرًا لمسرحة رواية "الحب في المنفى" تأليف بهاء طاهر(١٩٣٥: ٢٠٢٢) ، على يد الكاتب "أحمد عصام" لتتحول لمسرحية "المنفى"، وهذه لم تكن المرة الأولى لمنسي في خوض تلك التجربة بل سبق وقدم العام الماضي مسرحة لرواية "الحب في زمن الكوليرا" للكاتب الكولومبي "غابرييل غارسيا ماركيز" (١٩٢٧: ٢٠١٤).
بداية اختار صناع العرض لفظة "منفى" فقط لتعنون اسم الإنتاج الجديد مع اقتصاص كلمة "الحب"، ليكون ذلك مُمهدًا لعالم المسرحية الجديدة، التي تبدأ من زمن "المنفى" الأخير بالفعل لبطل العرض "سعيد" وهو زمن محدد لذلك الصحفي الذي يُفتتح المشهد الأول وهو يؤكد على أنه اشتهى فتاة وأحبها لكنه عاجزًا على تقديم الحب لها، ثم بالتعرف على مكان الحدث "سويسرا" وهو مكان محدد أيضًا ذهب إليه سعيد للعمل كمراسل صحفي بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، ثم بعد ذلك التحديد الدقيق تأتي مجموعة أزمنة وأماكن متداخلة، يشكلها العرض قاصدًا تداخلها بل وامتزاجها، فهي ليست بفلاش باك صريح وعودة من زمن المنفى لأزمنة سابقة، بل هي تأرجح بين العديد من الأماكن والأزمنة على مدار عمر ذلك الصحفي من بينهما سويسرا التي بدأ العرض منها محددة، ثم أصبحت تحضر وتغيب لتكون فضائًا قائمًا مثلها كسائر الفضاءات والأحداث والأزمنة الأخرى القائمة، مختلفة العصور آنية الحدوث. 
حيث يلقي العرض في ثلثه الأول مشاهد متفرقة بين حياة سعيد بالجريدة وعلاقته بمنار زوجته وزميلة عمله، وعلاقته بأصدقائه إبراهيم وشادية العاملين بالصحافة أيضًا، لتحديد اختلاف الأفكار والاتجاهات من خلال شبكة علاقات البطل، حيث سعيد اشتراكي ينتمي للناصرية، بينما إبراهيم يتبنى الفكر الشيوعي، يحب سعيد صديقه إبراهيم بكل صدق، لكنه يتخلى عنه في أزمته انتصارًا لأفكاره ومنصبه، ليبدأ المنفى الأول من هنا، بالتخلي عن حب الاصدقاء في مقابل الانتصار للقضية وتحقيق المكاسب الشخصية، ثم بمنافٍ تتوالى بين ترك زوجته له في الزمن نفسه إبان ذلك التخلي، أي منفى يقابله آخر وسعيد يلعب أدوار متعددة بهما بين فاعل ورد فعل.
وعلى مدار عدة أزمنة تظهر أشكال أخرى للمنفى أيضًا في حياته، مثل نفي سعيد من مدرسته باختياره البعد عنها بسبب تنمر زملائه عليه لأن والده يعمل فراشًا، ثم بمنفى آخر في موت والدته بالملاريا وهو مازال في عمر صغير، ثم بمنفى جديد بعد انجابه لأبنائه (خالد وهنادي) وتسميه الابنة على نفس اسم الأم محاولًا استعادتها في صورة أخرى وزمن آخر، ثم ليجد ابنه يتبنى الفكر الديني المتطرف ويحكم عليه بالنفي من المنزل ليبتعد عن أولاده، والمنفى المكاني الأخير والأكثر وضوحًا الذي استهل به العرض نفسه وهو "المكان" سويسرا، لكنه يتضمن بداخله منافي عدة أيضًا كقصة الحب التي لم يقدر على خوضها رغم رغبته فيها. 
-الزمن
يتضح من ذلك التأويل السابق أن العرض وعى بمقدار الزمن لكنه أراد الانصهار بين الأزمنة والأماكن عمدًا للعمل على توضيح التفاصيل الداخلية للشخصية التي يتوالى نفيها على المستويات المكانية والعاطفية والعلاقات الأسرية والصداقات، وذلك أولًا لمدى زخم الرواية الأصلية بالشخصيات، ثانيًا لخلق طابع جديد يخص ذلك الجنس الأدبي المختلف، الذي يعتمد على سينوغرافيا عاونت المتلقي على فك شفرات ذلك التداخل وتفسيره، بين فضاءات منفصلة قائمة بذاتها تشغل حيز المكان بأكمله، وفضاءات أخرى بين يمين الخشبة ويسارها في أعمار مختلفة لشخصية البطل، نظرًا لتشابه الشعور أو لتشابه الحدث، وكذلك مقدمة الخشبة وعمقها والفصل بينهما ببانوهات تكوسها قماشات بيضاء شفافة تفصل بين الفضاءات من جهة، وكذلك الأزمنة، لكنها من جهة أخرى تعمل على تقديم صورة ذات رؤية ضبابية مؤكدة كونها آتية من زمن بعيد لكنه يتماس مع ما يحدث في المقدمة من حيث الواقعة، لتمثل مشاهد سينمائية ذات صورة ضبابية مرئية لتزيد من تفاصيل وعمق الشعور الكامن لدى الشخصية.
وفي مواضع أخرى تلتقي الشخصية الواحدة في أعمار مختلفة داخل فضاء واحد لكنها أزمنة غير واحدة، بل تلاقي شعوري بحت، كما في مشهد استحضار سعيد للحظة وفاة والدته هنادي، الذي يتكون من سعيد الصغير والكبير معًا بين أحضان الأم، لامتزاج لا يمكن فصله بأي منهما يتذكر أو أي منهما يتمنى وإلى أي زمن ينتمي الحدث، أهو سعيد الكبير يتذكر تلك اللحظة ويستشعر بحضن الأم، أم سعيد الصغير يرسم مستقبله في تلك اللحظة الفارقة في عمره بأكمله، وأي شعور منفى منهما يسيطر عليه هل منفى البلاد أم منفى الحب أم ذلك التشتت العالق بين ما حياه صغيرا وما عاناه كبيرًا؟
-تقنيات
لم يقدم العرض شخصية البطل سعيد كعفيف منزه بل على العكس، صوره في مواضع كثيرة يعمل لصالح تحقيق منافعه، لكن هذه المنافع دائمًا ما كانت تزيد من وحشة شعور المنفى بداخله، بل ومراجعة نفسه في عمره الكبير على ما فعله من دناءات في شبابه، لذا كان لابد أن يتداخل الزمن سينوغرافيًا إلى هذا الحد، نظرًا لتشظي البطل ذاته بين سائر أزمنته وشخصياته.
وعليها استخدم العرض تقنيات سينوغرافية أخرى نظرًا لتقديره بحساسية ذلك الاختلاط وهمه في عدم تشتت المتلقي، فاستعان بتقنية "الفيديو مابينج"، بقياس المساحات الفارغة من المسرح لتسليط تكوينات محددة لمكان الحدث بجانب الديكورات، وكذلك السلويت الخلفي الذي يقدم في المشاهد الرومانسية للرقصات، رقصة تتشابه مع رقصة مقدمة الخشبة، لتكوين رؤية شاعرية جذابة، وصورة عاكسة لبواطن الأمور في الخلفية، بجانب مشاهد ذات أحداث مؤلمة كمشهد "ماريان" ممرضة الوحدة الصحية التي سردت في مشهد قصير مشاهد كثيرة عن حرب لبنان، لتستحضر الخلفية حرب لبنان عن طريق ألوان وخطوط تعبر عن بشاعة الحوادث، رغم اختلاف زمن سرد الواقعة. ليكون ليس فلاشًا باكًا صريحًا مجددًا بل ما هو إلا استحضار لأزمنة ماضية لجعلها آنية في زمن السرد اللحظي لتكمل الحكاية برسم صورتها بشكل فعلي.
-شخصيات
لم تكن شخصية "سعيد" هي محور المنفى وحده، بل حضرت شخصيات عدة تؤكد المعنى ذاته مكانيًا وزمنيًا وشعوريًا، ومنها تشاركت كافة شخصيات العرض في المنفى أيضًا على جميع مستوياته، كشخصية منار زوجة سعيد وشعور الاغتراب في العيش مع زوج لم يكن هو من أحبته، وشعور شادية زوجة إبراهيم تجاه سعيد بعد تخليه عن زوجها بالمنفى من أقرب أصدقائها، وشعورها تجاه زوجها حين أهانها في آخر زيارة له في السجن بالمنفى من أكثر شخص أحبته وضحت من أجله، وبعيدًا عن سعيد ودائرة علاقاته المقربة والنظر فيما هو أبعد، جاءت منافٍ أخرى لشخصيات مختلفة بالعرض كـ"بريدجيت" النمساوية وبحثها عن الحب في المنفى فعليًا، حيث مجيئها إلى سويسرا مع عمها "مولر" الذي كان على علاقة سرية بوالدتها تسببت في شعورها بمنفى تابعه منافٍ في قصص حبها غير المكتملة فيما بعد، وبخاصة مع الشاب ذي البشرة السوداء وما تعرض له من اضطهاد عنصري أدى إلى قتله، بجانب منفى كل من "هيلين، ويوسف" صاحبة المطعم الكبيرة في العمر التي تبحث عن الحب وتتزوج من يوسف الشاب الصغير طالب الإعلام بعمر ابنها، وهي تعلم أن زواجه منها قائم على منفعة، لكنها تريد أن تكون بجانبه تحبه وتقدم له الرعاية، مقابل يوسف المنفي في أحضان العجوز بدون حب، فقط باحثًا عن المستقبل والعمل في سويسرا.
لم يغفل المخرج أي تفصيلة تحدث تداخلًا يسبب التشتت للمتلقي إلا وتداركها، ليس فقط على مستوى الصورة، بينما على مستوى اللغة المنطوقة أيضًا التي استخدم فيها "العربية الفصحى" لناطقي اللغة الأجنبية، و"العامية الدارجة" لناطقي اللغة العربية لتوضيح الفارق باتفاق ضمني مع المتلقي أن كل منهما تشير إلى لغة بعينها. 
وأخيرا للوعي أكثر بتحديد الزمن، ذلك العنصر الذي لا غنى عن تحديده في نوع الجنس الأدبي والمرئي "المسرحية" تم استخدام أغنيات شهيرة عن فترة الناصرية أمثلة "كنا هانبني وأدي إحنا بنينا السد العالي"، وكذلك فترة النكسة وأغنية "عدى النهار"، ليكون من تلك العلامات السيميائية المرئية والمسوعة إشارات نحو تحديد مكان وزمن سير الأحداث، في الوقت نفسه الذي يخدم ذلك العنصر شعور الشخصية المتداخل، أي جاءت تلك العلامات لعدة وظائف الدرامية منها والفاصلة للأزمنة أيضًا، تلك الأزمنة التي تصل في النهاية لفقدانها تمامًا وتداخلها بشكل فعلي لا مجرد تأويل أنها متداخلة، وذلك عن طريق استحضار كافة الشخصيات بملابسها وحالتها التي أثرت أو مرت في حياة البطل، لتحضر داخل فضائه الأخير المتداخل هو الآخر بين عدد لا نهائي من الأماكن، فمثلما حضرت متشظية أمام عين المتلقي طوال أحداث العرض تأويلًا، حضرت في اللحظة الأخيرة بشكل فعلي ومادي ملموس متشظية أمام عين سعيد نفسه، تأكيدًا على أن اختيار ذلك التسلسل غير المتدرج كان تمهيدًا لحالة الفوضى الموجودة داخل شخصية البطل، ومونولوجه الأخير الذي يصرح فيه ذلك التداخل حين قال: "أنا ابن الفران، نائب رئيس التحرير"، فهي فوضى داخلية ونفسية قدمها المخرج بنفس الحالة الفوضوية المحسوسة عن طريق اللعب بعنصري (المكان، والزمن)، مع مزج بين عناصر الرواية والمسرحية معًا، فرغم وجود إطار يحكم رؤية متلقي العرض عن طريق خشبة المسرح، إلا أن ذلك التداخل أدى لحدود لانهائية في تأويل العرض نفسه، لذا ظهر المشهد الأخير تحديدًا كمشهد فوضوي لزيادة حس التأويل والشعور بفوضى البطل ذاته، فهي بالفعل فوضى مرئية ونفسية، لكنها فوضى منظمة على مستوى الوعي بعناصر الصورة المسرحية. أي فوضى درامية يحكمها التنظيم الإخراجي. 
المصدر: مجلة إبداع الثقافية عدد شهر يناير ٢٠٢٤، العدد رقم ٥٠.
 


2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون