ماكيدا .. امرأة بحجم أفريقيا والعالم ..لنغني جميعا من أجل لينا ..
2024 ,18 نيسان
الفنانة ماكيدا سولومون
يوسف الحمدان:صوت العرب – البحرين.
إن القضايا والأحداث التي تهز الرأي العام في مدينة ، بإمكانها أن تهز العالم كله بمختلف شرائحه وقطاعاته ومؤسساته في قاراته الخمس ، خاصة ما إذا اتصل الأمر بقضية اضطهاد عرقي أو عنصري استعبادي جائر يقود ضحاياه إلى منصة القتل والسحل دون ذنب ارتكبوه سوى أنهم رفضوا الذل والخنوع والقهر .
هكذا هي قضية لينا مابيكر الأفريقية الأمريكية التي أعدمت في ولاية جورجيا الأمريكية عام 1945 بسبب قتلها صاحب عملها الأبيض الذي انتهك عرضها دفاعا عن نفسها وشرفها وكرامتها والتي لم يزل صداها وجرحها المؤلمين الفاجعين غائرين في القلب والنفس حتى يومنا هذا .
إنها قضية فدح تجسدتها الفنانة الأفريقية البريطانية المولد ماكيدا سولومون في مسرحية ( من سيغني للينا ؟ ) وكما لو أنها تحدث اللحظة أمامنا بكامل تفاصيلها المؤلمة القاسية ، إذ اخذتنا معها في رحلة تمضي بنا على شفير نفس غضة منهكة لم تكن سوى رهن زجت به تطلعاته البسيطة المتواضعة التي تروم بعض عيش كريم ، زجت به في أتون محرقة رجل أبيض استغله أيما استغلال واستعبده إلى حد التملك والتسلط حتى بات دم السفح الناجم عن اغتصابه عنوة هو أقل حقوقه الممنوحة له تجاه هذا الرهن الذي تجسدته ماكيدا سولومون بوصفها جسد حر في قمقم الظلم العنصري الأبيض .
وقد اختارت المخرجة الأفريقية الجامايكية المولد فاي ايلنغتون لهذه المسرحية القضية التي كتبتها الأفريقية الأمريكية المولد جينيس ليديل بدم مقهور وقدمتها في مهرجان الفجيرة الدولي الثاني للفنون ، اختارت فضاء مسرحيا فقيرا لا يتجاوز ثلاثة كراسي وطاولة ، لتمنح روح الممثلة ماكيدا كافة إمكاناتها الأدائية والتعبيرية ولتصبح في الوقت نفسه هذه القضية هي الروح التي تستنفر فسح هذا الجسد والفضاء ولتكون ماكيدا ( لينا ) هي المحور الرئيس الذي تنبثق منه الحكاية القضية وتتشكل عبره تفاصيلها المؤلمة التي تنتثر في هذا الفضاء كخلايا دقيقة لشخصيات وأحداث تتحاور وتشتبك مع ذواتها وتدين وترفض وتدفع من خلالها بوحها الحزين المبكي والرافض لكافة أشكال وأنواع القهر والاضطهاد الذي آل بها عنوة إلى اغتصابها واضطرارها لقتل من اغتصبها معلنة بذلك الحظوة بكرامتها المهدورة وإن أدى ذلك الانتقام إلى قتلها ، منهية بذلك الانتقام عهد الاستعباد بالنسبة لها ومنبهة من جهة اخرى الرأي العام العالمي للمساويء السوداء البشعة التي يرتكبها البيض العنصريون في حق السود والافارقة في أمريكا وأوربا والشعوب التي خضعت تحت سيطرتهم والتي لازالت تخضع حتى يومنا هذا لهذه السيطرة .
 
إنه مسرح القضية بامتياز ، والذي من الممكن أن يقدم في مختلف الفضاءات المسرحية ، بما فيها الشارع ، ولا يحتاج إلى كثير من الترف و ( الهندمة ) الديكورية أو السينوغرافية ، خاصة ما إذا كان المؤدي يتمتع بروح أدائية صادقة في تجسيد القضية كما هو الحال بالنسبة للفنانة ( القضية ) ماكيدا ، التي تنقلت بنا وبحضور اسر ساحر منذ بدء القضية إلى لحظات تجسيدية بسيطة وعفوية في حوارها مع أمها لا يعدو استخدامات بسيطة ومتواضعة لايشاربات قماشية فقيرة دالة تتغير معها أزمنة وأحداث أدائية ، لتستدرجنا معها نحو عمق القضية حين تتم لحظة اغتصابها البشعة من قبل صاحب عملها الأبيض . ولعل لحظة الاغتصاب هي من أكثر المشاهد سطوعا في التجسيد وفي التأثير على النفس ، حيث تنضح من خلالها لحظات الألم القهرية ولحظات الرفض الموجعة ولحظات الاستعباد وتحول هذه الفتاة إلى مطية مسلوبة الإرادة قهرا ، وهي لحظات تمكنت الفنانة ماكديلا من تجسيدها بكافة ممكناتها الأدائية صوتا وبكاء وجسدا وروحا ، وكانت مختزلا حقيقيا لعذابات نساء السود المقهورات والمستعبدات ، ولعلها جرأة غير عادية من قبل الممثلة والمخرجة معا في رسم وتشريح حالة الاغتصاب واستثارة رفض الآخر بقوة لها وانعكاساتها البشعة على نفس المتلقي في الوقت نفسه .
لقد تمكنت المخرجة ايلنغتون أن تقدم لنا قضية تعاش وتعرض في الوقت نفسه ، وهي عملية فنية ليست سهلة أو ممكنة التجسيد مالم يكن وراؤها مخرج يجوس الدواخل الصعبة ويفكر في كيفية تجسيدها على فضاء عرضه المسرحي .
إنها مسرحية تحتفي بالمرأة الإنسان التي تقاوم ولا تكف عن المقاومة وكما لو أنها في مواجهة جبل ثقيل وليس مجتمع فحسب ،  وذلك بلا شك يحتاج قدرات فنية أدائية استثنائية كالتي تتمتع بها هذه الفنانة الرائعة ماكيدا التي تؤدي بجسد روحها الداخلية وليس بجسدها فحسب ، بل إنها تمكنت من أن تجعل هذا الجسد المقهور كتلة نفسية روحية معبرة ، ولعل هذه الحالة الأدائية تقترب كثيرا في فحواها ونوعها من مسرح المقهورين ل ( اجستو بوال ) ، وهي امتداد اختزالي للمقهورين والمغتصبات والمقاومين في الرواية المسلسلة الشهيرة ( الجذور ) التي عرضت في منتصف سبعينيات القرن الماضي وهي قريبة من روح الكاتب المسرحي السنيغالي ( سوينكا ) .
لقد تمكنت المخرجة ايلينغتون من الاشتغال على نحت المشاعر الداخلية للممثلة ماكيدا بوصفها جسد القضية والعرض ، إذ أصبح الداخل من خلال هذا النحت هو المؤثر في القضية وهو المؤثر على الداخل في الحوار مع الجسد ، خاصة ما إذا كان هذا الداخل نزف عميق يصعب ادماله بسهولة .
إن مسرحية ( من سيغني للينا ؟ ) ، عرض لا ينبغي أن يتوقف نظرا لأهمية القضية المطروحة من خلالها ، ينبغي أن يستمر ويعرض في مختلف ارجاء العالم ، لأنه يطرح قضية تعاني منها مجتمعات كثيرة في هذا العالم ، ولن نجد مثل هذه الانسانة الرائعة المبدعة في أدائها ماكيدا من يمكن أن يقدم مثل هذه القضية تجسيدا وإيمانا ومعايشة ، فدعونا نغني جميعا من أجل لينا ..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون