لا وجود لمنظومة ما قبل 25/7..إنّها فرية كبيرة!.
2022 ,06 شباط
*د.خالد شوكات:صوت العرب – تونس.
من المغالطات الكبرى التي جرى تثبيتها كانطباع "لا يرتقي إليه الشك" لدى الراي العام، هي "منظومة ما قبل 25/7" أو "منظومة ما بعد 14/1".. وفي تاريخنا المعاصر سبق للقوى النافذة أن تلاعبت بالرأي العام الوطني وقامت بتثبيت انطباعات سلبية خاطئة من قبيل أن تجربة "التعاضد" كانت كارثية، بينما الحقيقة ان هذه السنوات هي التي بنيت خلالها الدولة الوطنية المستقلة، ومن قبيل ان الهادي نويرة كان رجل اقتصاد وان سنوات حكمه خلال السبعينيات كانت سنوات رخاء، فيما كان نويرة محاميا انتهت سنوات حكمه بأحداث 78 العمالية الأكثر دموية، وكذلك القول بان محمد مزالي "هرب بالخزنة" والحقيقة ان الرجل هرب في ثوب راعي اغنام، وانه لم يكن يملك دولارا واحدا في جيبه عندما وصل الى الجارة الجزائر وعاش طيلة سنوات منفاه على احسان ومساعدات أصدقائه العرب، ممن بادلوه الحبّ بالحبّ ورحموا عزيز قوم ذلّ.
ولو كانت هناك منظومة فعلا، على غرار منظومة الرئيس بن علي او الزعيم بورقيبة لما تركت رجلا مثلا سعيّد يصل الرئاسة ولا تركت عبير تصل البرلمان ناهيك ان تقوم بترذيله..
ولعل الشرط الاساسي للقول بوجود منظومة من عدمها، وجود دولة عميقة او مؤسسة حارسة او مركز قرار موحد وقوي، وواقع الامر ان الناظم الوحيد لهذه المرحلة بما لا يجعلها منظومة ابدا، هو الزمن اي انها مرحلة امتدت من 14 جانفي 2011 الى 25 جويلية 2021، وفيما عدا ذلك كان الحكم تداولا بين اطراف لا ناظم بينها، وتلك صفة من صفات مراحل الانتقال الديمقراطي غالبا.
من الناحية الدستورية يمكن تقسيم هذه الفترة، الى ثلاث مراحل: الاولى كانت مشدودة الى دستور 1959، وامتدت حتى ديسمبر 2011، ثم الثانية وهي مرحلة القانون المؤقت المنظم للسلطات حتى فيفري 2015، ثم المرحلة الاخيرة التي امتدت حتى 25 جويلية والتي كانت مرحلة تنزيل دستور الجمهورية الثانية.
أما من ناحية الحكم والحكومات، فيمكن الحديث عن 12 حكومة أوّلها حكومة الغنوشي وآخرها حكومة المشيشي، كما يمكن الحديث عن المراحل التالية: فترة ما قبل اعتصامات القصبة، وفترة حكومة السبسي، ثم فترة الترويكا بحكومتيها، ثم فترة حكومة الحوار الوطني لمهدي جمعة، ثم فترة حكومة التوافق الوطني بقيادة الحبيب الصيد، ثم فترة حكومات الوحدة الوطنية التي قادها الشاهد، واخيرا حكومات الرئيس سعيّد ما قبل الانتخابات، وخلاصة القول انه مع وجود كل هذه التناقضات والقوى المتصارعة والتجارب المتعددة كان من المستحيل على اي كان بناء منظومة حكم بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه للحكم.
واما تواطؤ الشعبوية والفاشية وفلول اليسار الوطدي المريض وجماعات العفن الايديولوجي الاقصائي التي تزعم بان النهضة هي صاحبة هذه "المنظومة المزعومة" التي أسقطها سعيّد يوم 25 جويلية 2021، فمردّه الرغبة في إقصاء خصم ايديولوجي ذنبه انه نجح في الحفاظ على مكانة متقدمة في جميع المناسبات الانتخابية التي عشناها خلال العشرية الاخيرة، ولم يسبق لنا ان عشنا مثلها من قبل حيث الانتخابات الصورية معروفة النتيجة مسبقاً، ولن نعيش مثلها اذا ما استمر الحال كما هو عليه اليوم مع صاحب المشروع القاعدي..
وهذه الفرية المشتقة، اي ان المنظومة كانت من صنع النهضة، هي شقيقة فرية "العشرية السوداء" حيث اشتغلت اطراف معلومة سياسية وأيديولوجية واعلامية على تثبيت هذا الانطباع السلبي ايضا، وواقع الامر لكل ذي نظر هي ان هذه العشرية كانت عشرية الحرية والديمقراطية، التي ظلت فيها تونس بمنأى عن الدم والحروب الأهلية والفتن الكبرى التي أطاحت بجل دول المنطقة، هذا دون إنكار لحقيقة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية واخطاء في التقدير والممارسة ارتكبتها حكومات متعاقبة اشتغلت جميعها في سياسات تاريخية خاصة وصعبة وطنيا واقليميا ودوليا.
سيتقدم الزمن بطبيعته، وسيقف التوانسة لاحقا على حقيقة هذه المغالطات الكبرى التي صنعتها دوائر الشر الحريصة على ان لا تتطور هذه التجربة التونسية في الاتجاه الصحيح وان لا تخلق التنمية من قبل نظام ديمقراطي، حتى تستمر الأنظمة الأكثر تخلُّفا في الحكم وحتى يبقى الكيان البغيض الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
رئيس المعهد العربي والديمقراطية ووزير سابق.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون