المسرح التونسي: جماليات اللامكتمل .
2024 ,28 آذار
د.فوزية ضيف الله في ليلة المسرح بالمدينة
*د. فوزية ضيف الله :صوت العرب – تونس.
أيّة علاقة بين المسارات الجمالية الجمالية للمسرح التونسي وهذا "االيوم" الذي يُضع في آخر المطاف؟ هل هو "اليوم المسرحي مطلقا" أم هو اليوم في علاقته بالتزمين والآن والآنية والحضور. يطلب الحديث عن المسارات بحثا فيما مضى وُصولا إلى الآن، وقد يطلب المسار نفسه نبشا من زوايا عديدة. لذلك فأنا سأحتمي بالمسكن الذي أسكنه ويسكنني بمعنى "السكن الوجودي" والمقام الفلسفي، وهو منبت "القلق" والانهمام هو هذا "اليوم" الذي أراه في المسرح التونسي من جهة ما أتابعه من عروض مسرحية على امتداد سنتين تقريبا وبمعدّل غزير. كيف لي أن أقول ما أراه قابلا لأن يُقال، وفق جمالية ورؤية وكتابة ما. قد يتهيّأ لنا أنّ "اليوم المسرحي" هو "يوم للجميع وليس لأحد"، على غرار ما كتبه الفيلسوف نيتشه "نصّ للجميع وليس لأحد".
من الذي يُحدّد جمالية العمل المسرحي؟ وهل الجمالية في النصّ أم في العرض أم في الاخراج أم في السينوغرافيا أم في الآداء أم في الفرجة والصدى؟
تنتمي "الجماليات"  إلى مجال التقبل الجمالي الذوقي (L’Esthétique)، الذي ينسحب على الفنون جميعا، وهي عبارة يونانية الأصل، يُقصد من خلالها كل ما تدركه الحواس. أمّا لفعل اليوناني (aisthanesstai) فيدلّ على الإدراك الحسيّ، الإحساس (sentir, percevoir)، ونجده في العبارة المستعملة طبيّا (anesthésie)  في الصيغة المناقضة للإحساس لتدلّ على فعل "التبنيج" وغياب الاحساس. أمّا الاسم "َAisthésis"  وهي ملكة مثل الخيال والعقل أو الذهن في علاقتها بالإدراك الحسيّ المباشر والمرئي والذوقي. فالاسطيتيقا ليست فقط "علم الجمال" بل هي الاحساس الذي يحمل في الوقت نفسه فكرة عن الادراك وعن الشعور به شعورا مضاعفا.
يعود هذا المعنى الحديث لعبارة "Esthétique" إلى سنة 1750، واستعملت لأوّل مرّة سنة 1781 في كتاب كاط "نقد العقل المحض"، ضمن القسم الأول الذي سمّاه النظرية الترسندنتالية للعناصر، فتحضر "الاسطيتيقا المتعالية" في العنصر الأوّل، وهي متعالية لكونها تتكوّن من المبادئء الماقبلية للحساسية. 
نتجت هذه المبادئ الكانطية في الاسطيتيقا عن المشروع تاذي قدّمه بومقارتن، فتعود الاسطيتيقا إلى حدوسات الزمان والمكان، وإن كانت أولى استعمالات الحدس تعود إلى أرسطو وأفلاطون. فإن بومقارتن رأى في الحدس ضربا من ضروب الحساسية، طاردا من مجالها العقل، وقد سبقه فولف (Wolf) في تبرير هذا الاختيار، فقد استعمل "intuition" للدّلالة على إدراك "الموضوع الحسيّ"، لكنّه حافظ على استعمال اللفظ في السياقين (العقلي والحسيّ)، في حين أن بومقارتن لم يرض أن يكون "الحدس" عقليا بالمرّة، فيقول إنّ "الحدس ضروري للجمال". فما معنى أن تقترن الجماليات بهذا "الحدس"؟ وأيّ "حدس" هو هذا الذي يتجاوز العقلي (النوس) نحو الحسيّ؟
يقترن الفعل الجمالي مسرحيّا، تشكيليّا وسينمائيا، أي فنيّا عموما بالحدس من جهة الابداع ومن جهة التلقي. ينبني هذا الحدس ضمن الزمان والمكان، يقترن بالمعيش (Vécu) واليومي (quotidien)  والحميمي (intime)، يُصبح وعيا فينومينولوجيا، يتحسّس الأشياء والكائنات مثلما يُحسّ بالأرواح والأحياء. يلتقط اللحظة الهاربة ضمن زمن ابداعي يتوافق مع "الديمومة" (برغسون)، وزمان "الفيلسوف هوسرل"، وخيال قاستون باشلار، ورمزية بودلار، وجنون ميشال فوكو، وجسدانية الفن عند نيتشه. فيتمّ الإنصات للعمل الجمالي المسرحي وفق مسار تستوعبه الذائقة الذكيّة الفطنة ولكنّه ذكاء حسيّ، قريب من الأشياء، يُنصت للموسيقى انصاتا داخليّا، يعيش الفرجة مع الممثّلين، عيشا حميما، ويستقبل النصّ المنطوق المُمسرح، استقبالا طُقوسيّا.  لا يُمكن للجمالية المسرحية أن تُحسّ أمام جمهور لا يعي فاعليّة الذوق والحدس الذوقي، ولا يمكن للفرجة أن تمرّ دون أن يزول ذلك الحائط الوهمي بين الركح والمشاهد. لذلك فإنّ المبدع المسرحي، لا يُمكنه تجاهل المتفرّج طيلة المسارات الابداعية التي يمرّ بها العمل المسرحي. 
فلماذا تظلّ الجمالية المسرحية دوما جمالية "لامكتملة" (inachevée)؟ أهذا اللاكتمال  هو ما يُحدّد ويُفعّل عملية البحث عن جماليات جديدة؟
تنشأ الجماليات المسرحية انطلاقا من النصّ، وينتشر الجمال على الركح وفي السينوغرافيا والملابس وفي تجريب متجدّد للوسائل، وللكلام، والأصوات ومن لعب على الفضاء، ومن تحريك للسؤال على مدار العرض. لا تنحصر جماليات المسرح التونسي في السياقات التشكيلية، ولكن في السياقات الترميزية كذلك، وهي العناصر المُفعّلة للتساؤل، الدافعة على التفكير وسط مغامرة البحث عن نوافذ جديدة. لذلك فالقبح نفسه والقسوة والارباك والصدمة، كلها طرق مغايرة انتُهجت لطرقٍ جمالي مُختلف.
ليست المسارات الجمالية دوما مسارات منفرجة، كما أن الجماليات لا يُنظر إليها فقط من جهة مبتدعها، بل من جهة المتلقي أساسا، لانها تُربيّ الذائقة الفنيّة، بحجم المشاهدات والعروص، تُنمّي "ملكة الإحساس"، التي يسميها كانط "الحساسية" (Sensibilité)،  و"الحساسية" هي ملكة الحكم على الجميل والقبيح والرائع والصادم والمربك. ليست الاسطيتيقا اذن بحثا في جمالية الفن، بل كذلك بحثا في عطالتها، وفي أزمتها. 
أعتقد أنّ أزمة الجماليات الأولى التي افتعلوها في المسرح هي "أزمة النصّ". لقد تمّ اختلاق "أزمة النصّ" ليستحوذ المنتجون والمخرجون على عناصر العملية المسرحية، وحتى لا يستفيد أحد غيرهم  من الدعم. فيكون الكاتب خارج هذه الدائرة. كيف يُمكن للجمالية أن تتنفّس حقّا أمام محاولات متعدّدة في الاستغناء عن النصّ. إنّ النص هو جوهر العرض المسرحي وعموده الفقري، فكلّما استهان المخرج بذلك، وجدنا مسرحيات، تُكرّر نفسها في بلاهة وألفاظ سوقيّة وكلام متشظّي. ولا أقصد ذلك التشظي المحمول بالمعنى، بل هو التشظي الذي لا جمالية ولا عمق فيه. ينضاف إلى "أزمة النصّ"، الحديث المتكرر عن "أزمة النقد" وهي أزمة نفتعلة أيضا، فكلما نهض ناقد سلخوه. نحن شعب لا نقبل النقد ونخشاه، وفي الوقت نفسه نُطالب بحضوره، فأي مفارقة هذه؟
إن النص الجميل، يدفع القراءات إلى التوالد، والتجدد والتعدّد، فتكون قراءات مكثفة، لا تصدر عن إملاءات خارجية-لذلك لا أقرأ ولا أتأوّل العروض المسرحية تحت الطلب- تجذبني النصوص التي تنطق جمالا، جمال الحرف والآداء والنطق والحركة، وكذلك جمال السؤال والحيرة والغضب، حتى الدعاء يكون جميلا، يُحرّك في النفس اسطيتيقية التلقي المبتهج، وتتكاثر عندئذ استفهامات مربكة، تُرغم المشاهد على الشرح والتفسير، وفق الوعي الذي لديه، وتأويل لكل تفصيلة في الركح أو في الصوت أو في اللباس أو في الضوء أو في الآداء. تُشعرني كل هذه الجماليات أنّ عصرا برمّته قد صعد على الركح، وأنّ النصّ سواء كان منطوقا أو صامتا، هو "أصل المعنى" وخالق الجمال في تلك الفرجة. يُسبّب لي النصّ الرديء قلقا، لا دواء له، فحتى المغادرة لا تكون على الأغلب لائقة. يجرّني استسهال الكتابة المسرحية، إلى أن أتنكّر في هيئة "المتأبّط غضبا".
نحتاج مسرحا مُغامرا، لكن يُحسن اللعب وسط هذه المغامرة وبشكل جدّي. نحتاج مسرحا للتجريب، لكنّه يصله ويربطه بالتجريد، يُجيد استغلال العثرات ولا يتبرّأ من فشله، بل يصنع منه دفقا جديدا ليُبدع. ليست العملية الابداعية في الفنون جميعا عملية علمية، لأنّها تتعلّق بمسارب عديدة، أوّلها المخزون الفكري، القدرة على توظيف المعيشي بشكل أنيق وذكيّ، القدرة على الحوار مع الأشياء، سلك مسالك خطرة ومن زوايا عديدة، وأهمّ شيء هو حصول المتعة الاستيتيقية لدى الفنان والمشاهد، في الآن نفسه. أريد أن يرى الممثل "يلعب" منشرحا، بلا تشنّج، عميقا دون أن يتوه ولكنّي للأسف أرى جوعه على الركح، ويمكنني أن أتبيّن وأحدس كل الظروف الحافة بعمله، وأستوضح إن كان راضيا بدوره وآدائه أو أنّه جاء يقتات فقط. فكيف يُمكننا أن ننتظر إبداعا من الممثلين، إذا كان الدعم يذهب للانتاج وليس للابداع، وتتخبّط أعمال ابداعية عديدة في محاولات خانقة بشكل ذاتي لأجل اتمام ما رسمته من آمال؟
لقد نجحت عدّة تجارب مسرحية، بشكل ذاتي، ورغم محدودية الموارد في سلك نهج مختلف جماليا، هو نهج يعتمد على الإرباك يُخفّف من وطأة الأشياء على الركح، ثمّ يُحوّل ما قلّ منها إلى رموز يُسائلها أو شخوص يُحاورها. هي نصوص تُجرّب أن تكون بلا مساحيق، صادمة، فاضحة، تُترجم حدّة الخوف وهلع العصر وقلق الوجود، بخطاب ركحي وجسدي عميق وثائر. يمرّ على وجع المدن والقرى، يُشحن في كل مرّة بطاقة مُتجدّدة تصل إلى العدمية في أقصاها، ثمّ تعود إلى "الدرجة الصفر". وفي مقابل ذلك استنجدت مسرحيات أخرى بتقنيات رقمية جديدة كأنّها تستبدل الإنسان بمصنوعاته، لكنّها أضعفت الجانب الحيّ، واستعاضت عن "اللحم" بالشاشات، ولكنّها قدّمت جمالية مختلفة قد تروق للبعض وقد لا تروق للبعض الآخر.
إنّ جمالية المسرح التونسي تكمن في هذه "الإرادة"، ذلك "الكوناتوس" (Conatus) الحائر  في البحث عن نفسه والتفكير في تحرير الجسد، وجعله ناطقا راقصا، متسائلا عن الحياة والإنسان والآخر. لكنها جمالية "اللامكتمل" (L’inachevé)، ذلك الأثر المفتوح، الذي يُواصل انشائيّته ويتجدّد، هو أثر في صيرورة، يرتاح ثمّ يستأنف، هو أثر مساري (œuvre processuel). ولعل ذلك هو أحد المعاني الواردة في كلمة "مسارات"، فيظل اللعب الاستيتيقي ممكنا، فيُربك هذا "اللامكتمل" الجميع، يُعبّر عن تصدّع الواقع المعاصر، عن انفلات المعنى وانفلات الفنّ. 
يلجأ المسرحيون إلى "المتقطّع"، "المتشظيّ"، "العمل في طور الإنجاز" (work in progress)، وضعيات المعاودة، التوقف، النقص، الصمت، العمل بلا شيء، القلق، الفراغ. إنها ظواهر لامست الفنون الأداتية والتشكيلية والمسرحية. فهل هي شكل من أشكال الثورة على الاسطيتيقا الكلاسيكية، التي ظلّت حبيسة نسق قيمي منغلق، منحصر ضمن ثنائيات الجميل/القبيح. أم هي صحوة متأخّرة للوعي الابداعي؟ 
يظلّ كلّ عمل في طور "اللاكتمال"، لأنه أثر مفتوح يتطوّر، ينتظر اكتماله عند التلقي. لكن ليست كل الأعمال المسرحية "المتشظية" في مسار نحو الاكتمال، فربّما هي أعمال لفظت أنفاسها الأخيرة، في منتصف الطريق، نتيجة موت طاقة الاحساس بالجمال، فناء فاعلية ابداعه، لأنها كانت منذ البدء، أعمالا بلا روح. 
*أكاديمية وناقدة من جامعة تونس المنار.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون