في ذكرى رحيل "العربي باطما".. الفنان الملتزم في فرقة «ناس الغيوان» .
2024 ,09 شباط
 غنى لفلسطين ...والانتفاضة..... وصبرا وشاتيلا.
صوت المقهورين في زمن سنوات ا"الجمر والرصاص".
العربي باطما...المبدع ، المسكون باّمال الامة وهواجسها ، والقريب من احلام الناس البسطاء الباحثين لهم عن مكان تحت الشمس.
رسمي محاسنة:صوت العرب – الاردن.
مرت امس السابع من شباط ذكرى وفاة "العربي باطما" ، نجم فرقة "الناس الغيوان" المغربية الشهيرة التي صنعت انقلابا في مفهوم الاغنية ، ودورها ، ورؤيتها ، وحققت جماهيرية تجاوزت "جبال اطلس" الى العالم العربي والعالم.
التقيته مرة واحدة ، وتحدثنا عن مفهوم الاغنية الوطنية والسياسية ، والتأثير الكبير الذي احدثته اغاني "ناس الغيوان "في بحيرة الغناء الراكدة ، حيث سيطرة لون من الغناء المغاربي ، الذي كان يغلب عليه الطابع الديني ، التصوفي ، بما يحمله من شكوى ، ورجاء ، وهروب نحو الغيبيات ، وكان يسأل عن مدى فهمنا هنا في "المشرق العربي" للمفردة المغربية ، الموغلة في المحلية ، وكان جوابي ان نقص معرفتنا بكثير من المفردات ، يعوضه احساسنا بالموسيقى ، وبالاداء العالي المحمل بشحنة انسانية هائلة من المشاعر في غناء الفرقة.
واحرص في كل مرة ازور بها المغرب ان ازوره في "مقبرة الشهداء"..وازور بيته في "الحي المحمدي".
ولمعرفة فلسفة "ناس الغيوان" لا بد من الرجوع الى الفترة الزمنية التي ولدت من رحمها ، حيث الارهاصات والتحولات الكثيرة في المغرب وفي العالم ، فالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المغرب ، كان يمر بمرحلة "سنوات الجمر" حيث الفساد والرشوة ، وغياب العدالة الاجتماعية ، والفقر ، وقبضة العسكر القاسية التي كانت تخنق الانفاس ، فيما العالم العربي خارج من هزيمة 67 ، وحركات التمرد الشبابية تجتاح العالم ، وحركة اليسار العالمي تتمدد بقوة ، ووجدت صدى لها بظهور فرق موسيقية عالمية ، تكسر المألوف في الشكل الموسيقي ، والمضامين ، حيث فرقة "الرولينغ ستونز" و"البيتلز" وفرقة "بنك فلويد" التي كانت تدعو للتمرد على المؤسسة التعليمية ، والاجتماعية ، والاسرة ، والمؤسسة الامنية ، وتجاوب شباب العالم مع هذه الفرق يشكل ظاهرة لا مثيل لها ، وظهور "الهيبيين" والمتمردين على واقع بكامله.
وسط هذة المناخات ظهرت فرقة "ناس الغيوان" التي بدأت في المسرح مع المخرج "الطيب الصديقي" الذي اعطاهم حرية الحركة ، والقول ، على المسرح ، هذه الارتجالات التي وجدت قبولا وتفاعلا لدى الجمهور ، حيث ادركوا مدى تأثير الموسيقى والغناء على وجدان الناس ، بعد ان لمسوا سحر اغنية "الصينية" واغاني مسرحية "الحراز" على جمهور "مسرح البلد".
في هذه اللحظه يقرر المبدع الراحل "بوجميع" ان يشكل فرقة غنائية ، ليجمع معه "العربي باطما" و"عمر السيد" و"علال يعلى" ليكون عام 1971 شاهدا على انطلاقة فرقة انحازت بالمطلق ، للناس البسطاء وهمومهم ، واصبحت لسانهم الذي يعبر عنهم ، ومنبرهم في "سنوات الجمروالرصاص". فهم جميعا قادمون من رحم هذا المجتمع ، وتحديدا من البادية الاكثر براءة ، وفقرا ، وقهرا ، والاكثر معاناة من اساليب الظلم وادواته القاسية ، التي خلقت انكسارات وهزائم ، ووجعا يمتد على حدود الوطن ، وتجهيل واقصاء. كانوا جميعا "ابناء امهاتهم" كما يقول "عمر السيد" احد الباقين من الفرقة ، سمعوا وتعلموا من امهاتهم ، عبقرية الرد ، والقول ، والتحدي ، والاصرار على الحياة ، فالام هي الشاهد الاكبر على الواقع ، والاقرب الى ابنائها في ظروف الفقر والقهر والظلم. اعادوا انتاج ما ورثوه في شكل غناء وموسيقى لم تجد صعوبة في الوصول الى الناس.
"العربي باطما" القادم من "الشاوية" ، الصحراء القاسية ، الى"الحي المحمدي" في الدار البيضاء ، في حي من الصفيح ، وسكن بائس فقير ، في المدينة العمالية ، حيث كان والده يعمل في سكة الحديد ، وقضى طفولة مشردة ، عاش فيها تفاصيل حياة الفقر باقسى مفرداتها ، حيث تم طرده من المدرسة ، فلم يكمل دراسته ، لتبدأ فترة المشاكسة والتأمل ، والجلوس الطويل تحت شجرة "البطم" القديمة. ولم يكن احد يتوقع ان هذا الفتى سيكون الوريث الشرعي ، للزجال "عبدالرحمن المجذوب" بعد ثلاثة قرون ، واللقب "المجذوب" اطلقه السياسيون عليه في حينه ، حتى يقللوا من قوة تأثير اشعاره على الناس. لكن المغاربة حفظوا اشعاره ، وتوارثوها جيلا بعد جيل ، بكل ما تحمله من نقد واتهام صريح للطبقة الحاكمة.
هذا الموروث جاء "العربي باطما" ليعيد انتاجه ، شعرا ، وغناء ، وتمثيلا ، من خلال "ناس الغيوان" خاصة بعد رحيل "بوجميع" في موته "الملتبس" ، فيتصدى "العربي" للمهمة ، وتبدأ مرحلة جديدة للفرقة ، من خلال الاغاني التي استجمع فيها ما يختزنه من موروث ، ومن حكايا "والدته ، يعيد صياغتها موسيقيا ، وغنائيا ، واداء باحساس قل نظيره ، فهو "البلبل الصداح" ، صوت يحمل موسيقاه الداخلية التي تمايل ورقص معها الشباب المغاربي ، رقصات اقرب للصوفية والهذيان ، كأن صوتة كان معادلا للواقع البائس الذي يعيشونه ، يحملهم الى عوالم "مشتهاة" من صناعتهم واحلامهم ، ونموذجهم امامهم. انه "العربي" يكفي فقط ان نسمعه ونشاهده وهو يقدم موال اغنية "السقام" ، التي يستصرخ فيها اهله ومجتمعه ، ويتساءل عن الضوء الذي مايزال محجوبا.
لم يكن العربي مؤلفا غنائيا ، وموسيقيا ومطربا فقط ، لكنه ايضا كان كاتب سيناريو ، وممثلا تلفزيونيا ، وروائيا شارك في العديد من المسلسلات والافلام ، ونشر في حياته رواية "الرحيل" التي تعتبر فتحا جديدا في الرواية العربية ، من حيث سرد السيرة الذاتية ، والبوح ، والاعتراف ، بجرأة ، اعتقد ان قليلا من المبدعين من يجرؤ عليها ، بوصفه للبيئة ، وظروف حياته ومعيشته ، وعائلته ، ووالده ، والكثير الكثير عن مغامراته وحماقاته. وهو يستكمل سيرته برواية "الالم" التي كتبها في سبعة ايام ، وهو في المستشفى ، يسابق الزمن ، ويتنافس مع "الموت" لكسب صباح جديد ، هذه الرواية التي يحكي فيها تجربته ، ويسترجع ذكريات مسيرته ، باسلوب متداخل ، يختلط فيه الزمن الروائي بيوميات موته الذي يقف له على الباب ، وجولات العلاج ، والترهل واللامبالاة في المستشفيات ، والاطباء الذين لا يهتمون لموت الناس.
لقد عرف "العربي" ان السرطان ينهش صدره بالصدفة عندما كان يصور احد الافلام في المستشفى ، ويشكو للطبيب الاعراض التي يعاني منها ، ليصعقه الطبيب بحقيقة المرض الخبيث ، وكما ذهب صديقة ورفيقه "بوجميع" في موت"ملتبس" فان "العربي" ذهب في موت "فجائعي".
لم يمهله الموت ، ليكون صباح يوم السابع من شباط 1997 نهاية مبدع اعطى من روحه ، واحساسه ، دفقات من الابداع التي ستبقى خالدة ، وعلامة فارقة سواء على مستوى الموسيقى والغناء وتاثيره في وجدان الناس ، او على مستوى "النموذج" الذي قدمه للمبدع الحقيقي ، المسكون باّمال الامة وهواجسها ، والقريب من احلام الناس البسطاء الباحثين لهم عن مكان تحت الشمس ، ولم يكن اسيرا لموروثه المحلي ، وهموم بلده فقط ، انما تعدى ذلك الى البعد العربي والانساني ، وكان طبيعيا ان لا يغيب المشرق ولا فلسطين عن باله ، فجاءت اغنية "صبرا وشاتيلا" ، ثم اغنية "دومي يا انتفاضة دومي" ، و"صهيون" و"الصهاينة" حاضرون في تراث "ناس الغيوان" ،لان هذه الفئة الخارجة على اخلاق وقيم التاريخ،والتي الان توغل في دم "غزة"،هي"سرطان" الامة الغائبة عن الوعي والدور.
رحل "العربي باطما" ، رحل ابن "رحال" وصاحب رواية"الرحيل" ، المتمرد الذي رفض هو فرقته ان يتم احتواؤه تحت اي تنظيم او مسمى سياسي ، لان روحه اكبر من ان يتم احتواؤها ، وحزبه هو "الناس" من البسطاء والمعدمين ، والمقهورين ، والمقموعين ليعطي نموذجا للانسان ، بعيدا عن اية حسابات ، ونموذجا للمثقف الحقيقي الملتزم،وكم نحن بحاجة لاستذكاره ، واسترجاعه ، وسط هذه الحالة من "التواطؤ" التي يعيشها الفن عموما ، - الا من رحم ربي - .
غادر "البلبل الصداح" وتم رثاؤه باغنية "مايدوم حال يا مجذوب الغيوان" التى ودعته فرقته بها ، بعد ان مات رفيقه "بوجميع" ،وغادر بعدة "عبدالرحمن باكو"،واصاب الهذيان رفيقه الثاني "علال" ، وما يزال "عمر السيد" يجمع تراث الفرقه ، رغم بعض الملاحظات على السيد الذي تنازل عن بعض هذا التراث لاشباه المغنيين دون حق.
تمر ذكرى "العربي باطما" وفي الحلق غصة بانه لم يتم الاحتفاء به بما يليق بما قام به ،ولو وضعنا كل"نجوم" الاغنية السياسية العربية، على مسطرة الالتزام، فان العربي سيكون قبل كل هذه "النجوم" التي اكثرها تكسب على حساب القضايا الوطنية.
         "ومايدوم حال....مامجذوب الغيوان".
 
 
 
 


امام مقهى السعادة المقابل لبيت العربي في الحي المحمدي
على مدخل البيت الذي عاش بها به العربي وشهد ابداعاته
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون