نقاد السلطة والأيديولوجيا ..الصرخة الحادية عشر في وجه النقد المميت..
2023 ,05 تشرين الثاني
لقطة من عرض المجنون لتوفيق الجبالي
يوسف الحمدان :صوت العرب – البحرين.
 إن حالة السلطة بعلائقها المتعددة والمتباينة في مسرحنا ، هي حالة عربية بامتياز ، لا تتم مناقشتها والاحتدام حولها إلا في مسرحنا العربي ، بينما مثل هذه الحالة ( العقدة ) ليست في شاغل اهتمامات المسرحيين المفكرين الأوربيين ، وليست عنوانا رئيسا ومؤرقا على يافطات مؤتمراتهم الفكرية أو مهرجاناتهم المسرحية ، وكما لو أن هذا المحور من كثرة ما يؤرقنا عربيا ، يسهم من جهة أخرى في صرف أنظارنا عن ما ينبغي أن نواجهه به ويحررنا منه ، وأعني به المسرح ، بمعنى آخر ، أن السلطة احتلت موقع المسرح ، وأصبح المسرح على هامشها .
ندرك أن الحالة المسرحية العربية ، حالة استثنائية إذا ما قورنت بالمسرح في أغلب بلدان أوربا ، ولكن كي يكون المسرح جديرا بحريته وقادرا على التأثير الخلقي الحر ، ينبغي ، من وجهة نظري ، أن يتحرر أولا من السلطات الأزلية الكثيرة والمتوالدة من وفي رحم تكوينه من الداخل الموغل فيه ، وليس من الخارج ، إذ لا يمكن أن يكون للداخل تأثير على الخارج ما دام ضعيفا ومتهالكا ولا يتملك أدوات الخارج القوية والمؤسسة والتي تحكم قبضتها بإتقان على منافذ كثيرة في الحياة ، قد يكون المسرح من بينها  ، كما ينبغي أن يتحرر من بعض النقاد الذين كرسوا وسخروا جل وقتهم لطرق أبواب السلطات في المسرح حتى لو لم يكن في العرض سلطة !! .
وكما أشرت ، فإن السلطات التي أحالت كثير من مسارحنا ، فرقا ومؤسسات وعروض مسرحية ، إلى سلطات تشتغل ضد المسرح الذي ينبغي أن يكون متحررا منها ، كثيرة بلا شك ، تبدأ أولا من سلطة الأيديولوجيا ، وأعني الأيديولوجيا المنغلقة إلى حد يتعذر معه خلق أي منفذ ولو لبصيص من الضوء ، أو لمتنفس من الهواء ، أيديولوجيا فولاذية مصمتة قهرية ، وأول المقهورين والمستعبدين فيها هم من يشتغل في حيز مسرحها ، فكيف يكون هذا المسرح حرا وهو سجين هذا النوع من الأيدلوجيا ؟ وكيف يمكنه أن يكون مؤثرا في الآخر المتلقي وهو الذي لا يستطيع أن يتحرر من سجن هذه الأيديولوجيا بعد ؟ وكيف يستطيع أن ينتج معرفة خلاقة إذا هو حول هذا المنتج إلى سلطة أيديولوجية فولاذية مغلقة ؟ فالمعرفة لا تتحول إلى سلطة إلا إذا حولها منتجها إلى أيديولوجيا .
وهذه الأرضية الأيديولوجية ، غالبا ما تتبناها فرق ومؤسسات مسرحية ، وليس أفراد ، إلا أن الأمر غالبا في حالنا المسرحية كما هو عادته ، ملتبس ومختلط ومستشكل أمره .
فإذا سلمت بعض الفرق المسرحية من سلطة الأيدلوجيا المطلقة ، فإنها ليس شرطا أن تسلم أو تنجو بنفسها من سلطة بعض المخرجين الذين حولوا المسرح إلى دمى وأدوات تابعة ومطواعة للغتهم الواحدة وإملاءاتهم ووصاياهم المتعسفة ، والذين أسهموا في خلق سلطة أخرى تكون أحيانا أشد عنتا على فريق العرض من السلطة الخارجية ، مرمى وهدف هؤلاء المخرجين ، فهي إذن مواجهة سلطة بسلطة ، أما الجسد المتحرر والروح المتحررة ، فلا مكان لها في خلايا رؤية المخرج المتسلطة .
وأعتقد ، بل أجزم ، أن النص المسرحي ضحية وبريء ، حتى إشعار آخر ، من هذه السلطة الإخراجية الدكتاتورية ، خاصة إذا لم يكن كاتبه أو مؤلفه هو المخرج ذاته ، فالنص مثقوب ، حسب آن بروسفيلد ، أي هو نص مشروع مقترح ، ولا يتوجب علينا إلقاء العبء كله عليه ، إذ ما هو سوى منطلقات ومفاتيح إبداعية فكرية من شأنها أن تقود العمل المسرحي إلى بر الحرية إذا كان المتصدي له يؤمن بهذه الحرية في تعاطي مثل هذه النصوص ، أما إذا كان خلاف ذلك ، فالسلطة للعرض أقرب إليه من حبل الوريد .
والسلطات في داخل مسرحنا تترى ، من بينها سلطة الماضي المعتم الذي أصبح وصار وبات ، وسيصبح ويصير ويبات ، الموضوعة النستلاجية الأثيرة لدى كثير من مسرحيينا ، والتي لا يصبح المسرح فاعلا ومؤثرا وأصيلا إلا بها .
ومن بينها سلطة الأشكال التقليدية في المسرح ، والتي لا يستوي المسرح إلا بها ، وأي محاولة للتحرر منها ، هو بالنسبة لمن يؤمن بها ، خروج على تقاليد وأصول المسرح ، وتجريب لا جدوى منه ، بل تخريب للمسرح وفنونه .
ومن بينها أيضا سلطة التاريخ والجندرية والنموذج النمط وغيرها ، وكلها في نهاية الأمر تؤول بنا هذه السلطات وأشباهها ، إلى خلق أسيجة خرسانية ثقيلة ، يصعب للمسرح أن يتحرر منها ،أو يشكل رؤى حرة جديدة ومغايرة .
وأول الضحايا لهذه السلطات المسرحية ، هي المخيلة التي لم تسلم من سلطة الرقيب الحسيب في مسرحنا ، الأمر الذي جعلنا في مواجهة عروض عقيمة شاحبة لا تكسو المخيلة روحها ورؤاها ، عروض ضاعفت من وجود تابوهات الرقابة البوليسية الفاقعة القهرية في شرايينها وأوردتها من أجل قمع المخيلة وطمس وجودها وتأثيرها في العرض المسرحي ، فتخيلوا معي عروضا لا تكون المخيلة المجذية للمغامرة المسئولة فيها ماء روحها وإنتاجها وتجذيها ؟ 
إن العروض التي عشقتها ، هي العروض التي كان زاد وماء حريتها ، المخيلة ثم المخيلة ثم المخيلة المتواشجة والمتماهية مع الرؤية المعرفية الإنتاجية الخلاقة ، ولعل من أهم العروض التي تصدت لمثل هذه السلطات وكسبت رهان حريتها الحقيقي ، عروض ساحر الصورة وفيلسوفها المبدع توفيق الجبالي ، الذي يأخذنا إلى حيث يكون للمخيال عنفوان وصهيل وجموح الخيل في المضامير المنفتحة على أفق لا حدود له .
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون