في الذكرى السابعة لاغتيال الكاتب والصحفي والمناضل الوطني "ناهض حتَّر".
2023 ,18 تشرين الأول
 
ناهض حتَّر: بطل تراجيدي إغريقي.
احمد جرادات:صوت العرب - الاردن.
"مات عرار وكان يَئن
أما الأردن فلا يحتمل الأحرار
وكأنَّ النصفَ الأولَ من عِشق الأردن يستهلكُ النصفَ الثاني."
بهذه الأبيات الثلاثة من قصيدته "قمرٌ على البلقاء" التي أبَّنَ بها نفسه في موكبه الأخير، لخَّص ناهض حتر تجربته الكفاحية التراجيدية في وطنه: "الأردنُّ لا يحتملُ الأحرار، والنصفُ الأولُّ من عِشقه يستهلكُ النصفَ الثاني"، وترَك لنا التفاصيل "يَسهرُ الخلق جرَّاها ويختصمُ" (أبو الطيب المتنبي).
تمهيد
لقد كان ناهض حتر في حياته الصاخبة ومماته الفاجع نموذجًا للبطل التراجيدي الأرسطوي تتجلى فيه الخصائص التي رآها أرسطو في الأبطال التراجيديين الإغريق: شخصية عظيمة تنطوي على نُبلٍ داخلي، و"مُقدَّرٌ" له، بأفعاله ومواقفه وأحكامه وأخطائه النابعة من مقاصد سليمة، أن يصل إلى نهاية مفجعة تثير تعاطفَنا وخوفَنا؛ التعاطفُ لأنه يصادف حظًا سيئًا لا يستحقه، والخوفُ لأن انقلاب حظه يمكن أن يَحدث لأيٍّ منا في أي وقت. إنه مع الناس ومنهم، لا هو فوقهم إلى حد الانفصال عنهم، ولا هو تحتهم إلى حد التأخر عن خطواتهم (يسير مع الجميع وخطوته وحده- سعدي يوسف)، ذلك لأنهم لن يأبهوا بمصيره في الحالة الأولى، وسيشعرون بأنه نال جزاءه في الثانية، بل إنهم يتماهون معه. ولذا فإنه يبعث فيهم كل هذا التعاطف مع قضيته وكل هذا الخوف من مآله. ثم يدركُ، أو يعترفُ بأن ما يحدث له ناجمٌ عن أفعاله ومواقفه وأفكاره وأحكامه وميزاته. كما أنه يتَّسم بكبرياء جارف واعتداد مفرط بالرأي والمعتقد وإيمان مطلق بما يفكر به ويقوله، ويَلقى مصيراً أقسى مما يستحق بمقاصده النبيلة. إنه ينتهي نهايةً تراجيدية لأنه يهوي من علٍ بأفعال لا يمكنه العودة عنها، ولكنه يتقبَّل موته بكل شجاعة وشرف. إنه مثخنٌ بالجراح الجسدية والروحية جرَّاء معاناته وتجربته التي تفضي إلى نهايته التراجيدية. وهو يتمتع بذكاء حاد يعينه على الاستفادة من أخطائه وبالتالي على الإصرار والمثابرة على السير نحو أهدافه بلا تردد، ويمتلك قدراتٍ غيرَ عادية ويتمتع بالشهرة والمنزلة الرفيعة، مما يجعل نهايته أكثر تراجيدية عند انقلاب حظه رأسًا على عقب. إن "المَثْلَبةَ" التراجيدية المميتة ليست عيبًا في شخصيته، وإنما هي خطأ في "التسديد" على الهدف، أي في اتخاذ قرار خاطئ أو إجراء حسابات خاطئة، لكنْ بنوايا حسنة، نتيجةً لمنطقِ معالجةٍ ذاتيٍّ أو عواملَ خارجية لا يدَ له فيها ولا سيطرةَ عليها.
ولعلَّ من المعروف أن الاتساق من أهم سمات البطل التراجيدي، أي أنه يتصرف ويتحدث بطريقة متَّسقة، لا مع شخصيته فحسب، بل مع تصورات الآخرين لسلوكه وكلامه، أي بما يتماشى مع نموذجه الخاص للشخصية. وهو يتمتع بصفات بطولية: النُبل والإقدام وعدم التهيُّب من أي شيء أو أحد، ويصارع ضد مصيره باقتدار. ولأنه لا يقبل بنظرة متدنية للذات، وبسبب الخطأ الذاتي في الحكم، فإنه يفشل في هذا الصراع الوجودي الملحمي في نهاية المطاف.
هل البطل إذن "مخيَّرٌ أم مسيَّر" بالمصطلح الدارج؟ ما هي القوة المسؤولة عن أفعاله وعن المعاناة التي يكابدها في حياته، المشيئة الإلهية التي لا رادَّ لها (الجبرية) أم الإرادة الحرة للإنسان (القدَرية)؟ لست هنا بالطبع بصدد الدخول في سجال القدَرية والجبْرية، وأكتفي بالقول إن مأساته تنطوي على خيارات، أي أنَّه يتمتع بإرادة حرة، ينتج عنها تناقضاتٌ تؤدي إلى نهاية "محتومة"- ليس بالمفهوم الديني طبعاً. كما تؤدي تراجيديا البطل إلى تغيير مآله ومآل أهدافه، فيتحوَّل، مثلاً، من منقذ لمجتمعه إلى ضحية. بيد أن ذلك لا يعني أن معاناته مجانية، ذلك لأنه يستمد الاستنارة من قلب المعاناة، ويصبح قادرًا على معرفة ذاته ومكانه تحت الشمس بصورة جيدة.
ولا يقتصر تأثير مصير البطل التراجيدي على ذاته، بل يمتد إلى النطاق العام (الناس، المجتمع، البلد) والنطاق الخاص (العائلة، الأصدقاء، الرفاق المقربون). إذ يمكن للناس العاديين أن يستمدوا طاقة إيجابية من مأساته لأنها تطال مصائر الجميع، من الأباطرة إلى المهمَّشين؛ فالشخص العادي برأي آرثر ميلر(جو كيلر في مسرحية "كلهم أبنائي") يمكن أن يكون شخصية تراجيدية طالما أنه يسعى إلى التمتع بهوية حقيقية وكرامة شخصية (السعي إلى التمتع بهوية وطنية حقيقية وكرامة شخصية؟ هذه هي ضالَّةُ ناهض طوال حياته الغنية والقصيرة نسبيًا). ألا تشبه شخصية ناهض حتر شخصية البطل التراجيدي آنفة الوصف؟
مَن هو ناهض حتر؟ مَن قتل ناهض حتر؟ لماذا قُتل ناهض حتر؟ (تكرار الاسم مقصود)
* ناهض مفكر سياسي وكاتب وحركي في آن معاً، يُنتجُ فكرًا سياسيًا ويدوِّنه في كتب وبحوث ومقالات لا تُحصى، ويهبط به من علياء النظرية إلى طين الواقع ويجرِّبُه عيانياً، وعلى أساسه ينظِّمُ نشطاءَ ويشكِّل مجموعاتٍ وحركات ويُنشئ مؤسسات. يكتب بغزارة وبلا انقطاع ويحرص على نشر ما يكتبه، وكلما سُدَّت نافذةُ تعبيرٍ في وجهه، بحثَ عن أخرى؛ مُثابرٌ في القول والعمل، يكتب بأسلوبٍ خاصٍ به تماماً، لعله أشبهُ ببصمة الأُصبع أو العين، بحيث يمكن لمتابعيه تمييزُه من السطور الأولى. ويبتعد ناهض الكاتب، بوعي، عن الأسلوب الدائري المطروق لكتابة المقال، أي الذي يعود في نهايته إلى حيث بدأ، ويعتبره هِنَةً فنية، ويكتب بالأسلوب المتنامي الصاعد الذي يشبه حركة التاريخ التي آمن بها. وهو يعبِّر عن أكثر الأفكار تعقيدًا بأبسطِ العبارات وأجملِها وأسْلسِها.. بلا جملة ولا كلمة زائدة عن الحاجة- حاجةِ موضوع المقال وهدفِه ونطاقِه- يجترحُ الحلولَ ويبلورُ المواقفَ وينحتُ المصطلحاتِ المناسبةَ إذا لَزِمَ المقام.
* ناهض كينونة سياسية محض، ليس في قاموسه السياسي مداورةٌ أو مناورة، ولا خوفٌ من خصم، أو مجاملةٌ لصديق أو سكوتٌ عن حليف. لا يتذكر، وهو يكتب أو يقول، شيئًا أو أحدًا غيرَ ما يكتُبه أو يقوله، لا يهمُّه ما سيقوله أو ما قد يقوله الآخرون؛ فالثقةُ الفيَّاضة بالنفس والاعتدادُ الشامخ بالذات والإيمانُ المطلق بصحة ما يطرح تمدُّه، جميعًا،  بشعور "الاكتفاء الذاتي"، إن صحَّ التعبير، وهو أحد المثالب البشرية. ناهض لا يخجلُ من أفكاره أو أُطروحاته السياسية، ولا يراوغُ في التعبير عنها مهما كانت صادمةً لغيره. يعشقُ الخوضَ في وحل النضال الواقعي اليومي العياني، ولا يخشى التلوّثَ بأوساخ فن الممكن، ولا يترددُ في البوح أو الفعل إذا اعتقد أن ذلك يعود على قضيته بالنفع.
* ناهض دائمُ التنقُّل من مشروعٍ سياسي، وحتى ثقافيً، إلى آخر، لا يكلُّ ولا يملُّ ولا ييأس، وكلَّما كَبا نهضَ (له من اسمه كلُّ نصيب، كما يُقال)، من اتحاد الطلبة الأردنيين في الجامعة الأردنية، إلى اتحاد الشباب الديمقراطي الأردني، إلى الحزب الشيوعي الأردني في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، إلى الجبهة الوطنية الأردنية في التسعينيات منه، الى منتدى مناهضة العولمة الرأسمالية، إلى حركة اليسار الاجتماعي، إلى حركة الضباط العسكريين المتقاعدين، إلى مجلس العلاقات الخارجية في  مطلع هذا القرن. وأقام ناهض علاقاتٍ وثيقة مع قياداتٍ سياسية ووسائل إعلامية في سوريا وحزب الله وإيران، ونظَّم معها الزيارات والملتقيات والمقابلات والمقالات، وظلَّ يحتفظ بآرائه النقدية والتعبير عنها بصراحة، حتى لو أدى ذلك إلى إقصائه من منصات ما انفكَّ يقدم لها إسهامات رفيعة المستوى، وآخر مشروعاته كان مشروع المشرقية، الذي قفزَ به قفزة كبرى، وربما هروبًا أكبر، إلى الأمام بعدما أدرك أن ماءَ وطنه، الذي طالما عشِقه وتغنَّى به و"قدَّسه" حتى الموت، ضحلةٌ لا تحمل الغطَّاس، في محاولةٍ لإيجاد حلٍ "للمعضلة" المستعصية التي تحول دون إحداث التغيير الذي كان ينشده ويحلم به في بلده بمفرده ومن داخله، وذلك عن طريق وضعه في إطار أوسع، وهو مشروع المشرقية الكبير، كمشروع توحيدي في زمن التقسيم والتفتيت، يكون فيه الأردن جزءًا من سوريا الكبرى. وكان يُحضِّر لعقد مؤتمره التأسيسي في العاصمة دمشق بالذات وفي ذلك الوقت بالذات، الذي كانت سوريا تتعرَّض لأبشع عدوان دولي مباشر وبالوكالة في مُنقلب هذا القرن تحت رايات "الربيع العربي"، التي انضوى تحتها فيلقٌ ضخم من المثقفين والكتاب والفنانين العرب، وأصدر جريدةً ينسجم اسمها مع مشروعه المشرقي: "ميسلون". كما أدرك ناهض أنَّ العجز عن حل المعضلة الأردنية لا يعود إلى أسبابٍ ذاتية، أو إلى إرادةِ الأشخاص أو عدمِ وجود مناضلين أو مخلصين أو عاشقين أو حتى حالِمين، وإنما إلى طبيعة تكوين الدولة الأردنية ونشأتها ووظيفتها الجيو- سياسية، وهو ما عبَّر عنه في قصيدته آنفة الذكر بأن "النصف الأول من عشق الأردن يستهلك النصف الثاني".
* ناهض أحبَّ يعقوب زيادين (الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني) وأحبَّ وصفي التل (رئيس وزراء الأردن الأسبق) في آن معًا. لا تستغربوا، فهذا هو ناهض، لا يجد في هذا الحب المركَّب غضاضةً أو تناقضًا، وردَّد بلسان الشاعر حبيب الزيودي أنَّ فيه شيئًا من وصفي وشيئًا من زيادين، مستشهدًا بأبيات الأخير:
"يا سدومُ الغريبةُ... التي عقرتْ ناقةَ الله
ما أنتِ أُغنيتي يا جَحود ولا لغتي
ولا أنتِ قافيتي يا جَحود ولا وطني
وطني حيثما مرَّ يعقوب زيادين يحمل ألواحه وصليبه..."
هكذا إذن، مثلما أحبَّ ناهض يعقوب زيادين، الشخصية الوطنية المعارضة الإجماعية، أحبَّ وصفي التل، الشخصية المُوالية الإشكالية، واتَّخذه مثلاً أعلى، فلقيَ المصير نفسه، وعلى نحو مشابه: خطةٌ مُحكمة وتقاطعُ مصالح لأطرافٍ عدة وتطميناتٌ مضلِّلة وكاتمُ صوت (من عنوان رواية مؤنس الرزاز "اعترافات كاتم صوت"): هناك..على درج فندق شيراتون القاهرة، قناصٌ محترف hitman أشقر حليق ببدلةً أنيقة وربطةِ عنق، وهنا..على درج قصر العدل، قاتلٌ أسمر بدشداشة وكوفية بلا عقال ولحية (دَعْكَ من خُرافة "أيلول الأسود"، فقد كان أولئك الشباب مجرَّد كومبارس، اعتقدوا أنهم لعبوا دور البطولة على مسرح الحدث الذي هزَّ المنطقة بأسرها وازدهوا به وتحمَّلوا، أو حُمِّلوا، وِزر آثام حقبة كاملة لا تزال آثارها وتداعياتها ماثلةً حتى اليوم).
* ناهض وثِقَ كلَّ الثقة بالبيروقراطية الأردنية، وما سُمِّي بـ "الدولة العميقة"، وآمنَ كلَّ الإيمان بأنها ستحمي البلد والشعب من خطر النيوليبرالية المتوحشة في الدولة الموازية، ومن ثمَّ الدولة فوق الدولة، التي أطلَّت برأسها، وبأنها ستكفلُ عدمَ انكشاف ظهرِه لرجالها في أتون الصراع بين ما أسماه ناهض تيار "الأردنة" وتيار "الأسرلة". وقد رأى ناهض أنَّ الدولة الأردنية كانت بلا عقل، فأراد أن يمنَحها عقلًا، وأنَّ البيروقراطية الأردنية كانت بلا فكر، فأراد أن يمنحها فكرًا، وأضفى عليها نوعًا من"الأناقة" السياسية، إلا أنها عندما خُيِّرت بين الرضى بتقليص حِصتها وبين فقدانِها كلِّها عندما تَحينُ لحظة الحقيقة الوشيكة ويأتي الطوفان القريب، اختارت الأول، "فأنكرت ناهضًا قبل صياح الديك، وهو أمر ينسجم تماماً مع طبيعتها الطبقية البنيوية التابعة، التي فاتَ ذكاءَه أن يفطن لها قبل فوات الأوان.
في الفترة ما بين اعتقاله واغتياله بسبب "تشيير" الكاريكاتور المشؤوم، تعرَّض ناهض حتر لحملة شعواء ممنهجة، أسهمَ فيها العديد من الأطراف المتقاطعة المصالح والمواقف.  فالقاتل المباشر، إمام المسجد والموظف العائد للتو من الحج الأكبر، لا يعرف من هو ناهض حتر، ولا يعي أهميته أو حيثيته، ولا يأبه بفكره وثقافته ودوره، شأنُه شأنُ من قتل فرج فودة وشكري بلعيد ومحمد البراهمي. حتى أنَّ "أُم ناهض" المفطورةَ القلب الكبير أعربت عن حزنها حِيالَ إعدام قاتل ابنها وتعاطفِها مع أطفاله، فما هو إلا مسدس في قبضة القاتل الحقيقي: وهو كلُّ مَن حقَنَه بالأيديولوجيا التكفيرية ودرَّبه على سلاح القتل واستخدمه لتنفيذ أهدافه السياسية، ومَن أصدر الأوامر بالقتل وأعدَّ المسرح لقتله بالتحريضِ عليه والتجييشِ ضده وإصدار الفتاوى بهدرِ دمه وإزهاق روحه. 
كما أسهمت قوى سياسية عديدة، يساريةٌ وقومية وإسلامية، في الحملة المحمومة التي استهدفت ناهض، تارةً بالنفخ في أوداج الرطانة اليسارية والقومية ضده، وأخرى دفاعًا عن الوحدة الوطنية، وثالثة ذودًا عن حياض الإسلام ورَب العزة، ورابعة بسبب مواقفه الصريحة والثابتة المؤيدة لسوريا وحزب الله وإيران وروسيا ضد الحرب الهمجية على سوريا، الأمر الذي ساعد على الانفراد به واستهدافه والتسديد عليه في مقتل.
لقد حمَلَ ناهض حتر في رأسه وعلى كاهله مشروعاً ذا شقيْن، أثقلَ من أن يحملَه رأسٌ واحد وكاهلٌ واحد، وعصيًّا على التنفيذ ومحكومًا بالفشل- لا لخطأ في الفكرة أو لنقص في صاحبها، وإنما لأن أخطاراً "تكتونية" تحولُ دون تنفيذه - وهو ما يمكن تسميته بـ "مشروع المستحيليْن"، أو "مشروع فك الارتباط المزدوج": فكُّ الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، وهو ما روَّجه تحت العنوان الشهير: "دسترة قرار فك الارتباط"، الذي ملأ الدنيا وشغلَ الناس؛ وفكُّ الارتباط بين الشعب الأردني والسلطة الحاكمة، وهو ما صاغَه تحت عنوان "بناء حركة وطنية أردنية مستقلة".
أما بالنسبة للشِّق الأول من مشروعه، فكُّ الارتباط مع الضفة الغربية، فقد أوضحَ ناهض وأسهبَ في العديد من كتاباته ومقابلاته وندواته أنه طرحَه كمشروع مضاد وفي مجابهة مشاريع التصفية النهائية للقضية الفلسطينية نهائياً على حساب الأردن وفلسطين معاً وشطْب حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقُه في تحرير أرضه التاريخية والعودة إلى وطنه فلسطين، ومن أخطرها مشروع إقامة "الوطن البديل"، بل الأوطان البديلة، في الأردن، من خلال التوطين الناعم، ومفرداته الشائعة "التجنيسُ والمحاصصةُ والحقوقُ المنقوصة، والمواطنة"، في سياق تحويل الأردن إلى "حوض سكاني" لاستيعاب جميع المهاجرين واللاجئين والمستوطنين من مُخرجات الحروب والنزاعات الإقليمية في شتى أنحاء المنطقة، حيث يُسمح لكل من هبَّ ودبَّ بالاستيطان والاستثمار والتملُّك والحصول على جنسية والوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ في الدولة. وأكَّد ناهض غيرَ مرة أنه للحؤول دون وقوع هذه الكارثة الجيو- سياسية اجترحَ الحل الذي أسماه "دسترة قرار فك الارتباط" لعام 1988"، الذي أُسيء فهمه، عمدًا أو سهوًا، بوعي أو بدون وعي، فباتَ بالنسبة للعديد من خصومه والكثير من الناس العاديين اسماً كوديًا لـ"النزعة الإقليمية"؛ فما أن تُذكر العبارة حتى تثور العواصف وتقوم الدنيا ويُرمى صاحبها بالسهم "الإقليمي" الزُعاف في "جُرح الغزال" مباشرةً (الإقليمية نسبةً إلى "إقليم"، وهو مصطلحٌ متفشٍ في الأردن وفلسطين فقط، ينطوي على تهمة التعصب على أساس الأصل، ولا محلَّ له من الإعراب في القاموس الأيديولوجي أو السياسي).
وأما الشقُّ الثاني من مشروع ناهض حتر، وهو فك الارتباط التبعي بين الشعب الأردني والسلطة الحاكمة في إطار الولاء للدولة الأردنية التي تكفل حقوق الجميع وواجباتهم، فقد نادى به وعمل في سبيله على بناء "حركة وطنية أردنية مستقلة"، مستقلة عن السلطة. وفي هذا الإطار نشأت اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين الأردنيين التي أصدرت بيانها المدوِّي في الأول من أيار/مايو 2010 في سابقةً لم تحدث منذ عقود طويلة. وتضمَّن البيان انتقادات ومطالب اجتماعية ومواقف سياسية وطنية ديموقراطية، وقد دعَمه ناهض بقوة، وقوبل بمعارضة واسعة في بيان مُضاد وقَّعه العديد من التنظيمات والشخصيات السياسية، اليسارية والقومية والإسلامية.  
وبعدُ، 
فإنَّ هذه محاولةٌ متواضعة، لكنَّها دعوةٌ جادَّة إلى إنصاف الشهيد ناهض حتر بإطلاق مشروع ثقافي يُعنى بالفكر السياسي لهذا المقاتل الفكري الذي دفع حياته ببسالة ثمنًا لحبه المستحيل للأردن، الذي قال عنه إنه "لا يحتمل الأحرار ويستهلك النصفُ الأول من عشقه النصفَ الثاني"، والذي صدقتْ نبوءته التراجيدية الإغريقية. 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون