الجندي المجهول بالمسرح العربي.
2023 ,13 تشرين الأول
حافظ خليفة :صوت العرب – تونس.
"هذا المقال ليس اطروحة او محاضرة او تنظيرا بندوة علمية بمهرجان ما.و ليس ترفا لغويا لاذكاء مكتبة مسرحية ما.. هو خواطر ممارسة ميدانية كتعرية مدمية لما حصل و يحصل لواقع مسرحي عربي غريب!!".
و اذ نعلم ان الكاتب و الممثل كانا قديما و حديثا عماد الفعل المسرحي للعرض, ثم تطور الامر الى ان اعتلى المخرج صهوة جموح الركح و اصبح متحكما او مسؤولا اولا على مفردات العرض و مكوناته و حائكا لكل عناصره.
و مع تطور العلم بالعصر الحديث و دخول الكهرباء عالمنا و حياتنا,دخل المسرح عالم الميكانيك و الانارة و الاضاءة و بعده جاءت التكنولوجيا الرقمية و لعل السيد القارئ المتابع سيلاحظ اني ذكرت كل من: الانارة و الاضاءة لانهما ليسا نفس الشيء ,و لكن دعونا من هذا الشطح اللغوي و الابحار التاريخي,و الذي اعتقد ان اغلب المسرحيين يعرفونه بجميع تفاصيله و ملووا سماعه . 
لقد ارتقى المصمم و الفني و التقني للانارة و الصوت بالمسرح قديما و حديثا الى اعلى الرتب و الاهمية باعتباره الصمام الذي من خلاله نرى العرض بعد ان زج بالمسرح داخل علبة ليلا ,بعد ان كان بفضاءات مفتوحة و نهارا..قلت ارتقى..نعم ارتقى تقني الانارة الى مرتبة مهمة في صناعة العرض و الاسهام في نجاحه,هذا التقني الذي ياتي قبل الجميع بيوم او يومين و احيانا لدى الفرق الاوروبية الكبرى باسبوع او اسبوعين, متحملا ثقل احجام و اوزان المعدات,و كثافة غبارها,فقد كان تقنيو جورج ستريلر يعيشون معه فهو لا يتركهم و هم لا يتركونه ,علاوة على ما يقوم به بوب ويلسون من جلسات ودية و فنية قبل و بعد كل عرض باحدى الحانات ,غير ابه بالممثلين الذين يقول عنهم انه انهى شغله معه,وان مع العرض يبدا العمل الحقيقي و الابداعي مع التقنيين,لقد فهموا و ادركوا بحسهم الفني والانساني ,و بوعيهم المهني بقيمة هؤلاء الابطال,انهم عين المسرح و فانوسه المضيء و اذانه و صوت الصادح,متحملين صعقات الكهرباء و الساعات الطويلة قبل العرض و اثناءه و حتى بعده,نعم لانهم اخر من يغادر بعد خروج الجميع من منظمين و مخرجين و مؤلفين و ممثلين و معجبين بباقاتهم و زهورهم.
و في ليلة موليير بفرنسا من كل سنة ,هناك جوائز لهم الى جانب العظماء من باقي الاختصاصات, و la scala di Milano و هو مسرح الاوبرا الايطالية بمدينة ميلانو الشهير اين ترى لهم غرفا للمبيت,و مطعما للاكل في حالات التاخر بالتمارين او التحظير التقني.مع منحهم دون سواهم لعلاوات وعطل خاصة .
انهم الغائب الدائم بمهرجاناتنا المسرحية العربية الدولية ,بعدم التنويه و التكريم و التواجد باللجان او حتى الكتابة عنهم ,و نحن نعلم ان نجاح اي عرض على خشبة الركح يكمن في نجاعة الفريق التقني الذي يكون بمثابة درع منيع لكل مكونات العرض.
حظرت كثيرا من المهرجانات بالشرق و الغرب و كان التجاهل لهذا التقني المسكين دائما بشكل محزن,بقصور الثقافة الجزائرية,بالقاعات المسرحية بايام قرطاج المسرحية , بمسرح السلام و ميامي و العرائس بالتجريبي,بالقومي و المنتدى ببغداد,و المسرح الملكي بالحر و اغلب المهرجانات الاخرى التي تهتم برفاهة الجالسين بالصفوف الامامية بالقاعة و حتى ما تلاها من مقاعد و حجرات.
اذكر زاهر بمهرجان اربيل الدولي للمسرح, و هو يتلضى بلسعات الكهرباء بربط خيوط الكهرباء بلوحة التحكم للانارة لرداءة الاجهزة التي انتهت صلوحيتها ,و ناظم و ليث الاسدي و هما يصلان باللاصق البلاستيكي خيوط الكهرباء لمهرجان دولي بكربلاء بمجموع 12 كشاف ضوئي فحسب,حسن الشاوش و انور بن عمارة و رمزي النبيلي و وليد حصير الذين سقطوا من السلم المتحرك اثناء الاعداد التقني,و العم الطاهر بالمسرح الوطني التونسي و هو الرجل على ابواب التقاعد يحاول التحايل على جهاز ثقيل بالسقف ,و يحزنني ان اراه هكذا وحيدا يلهث و هو معلق على السلم فاقول له: عم طاهر هل تريد ان اساعدك ؟او ان اجلب اي شخص لمساعدتك؟,فيجيبني و عرق جبينه يتصبب و بابتسامته الدائمة:دعني و شأني ,فانا اتفاهم مع الحديد و لا اتفاهم مع البشر.لقد كان يراقب كل الكشافات و يعاملها كابناءه و يرفع تقاريره المركزة و المضبوطة للادارة العامة مطالبا ايّاها بمزيد الصيانة و شراء قطع الغيار و في الاخير تذهب مقترحاته ادراج التجاهل.
ان ما نرصده من صرف للمبالغ الباذخة على الطيران للضيوف و التشريفات و الاقامات و الجوائز و التكريمات و التزويق الخارجي و الورود بمقدمة الركح و الصحافة الانيقة بالمهرجانات المسرحية العربية الدولية,تعد اضعاف اضعاف ما يمكن ان يتم صرفه على شراء معدات جديدة لاي مهرجان دولي يحترم نفسه و سمعته او على الاقل شراء قطع الغيار, مما يساعد التقني من الوطن و الاخر الاتي كيف مشارك على العمل دون مشاكل ناهيك عن خلاصه المتدني او المعدوم, و دفع تامين على حياته او تغطيته صحيا , الا اننا ما نراه هو تجاهل تام لهذا الكائن الحيوي بداية من عدم ذكر اسمه ببوستر العرض و تجاهله و تناسيه في تقديم تحية الجمهور و دعوته لاحتفال مبرمج بعد العرض مع بقية المشاركين,انه اخر الاسماء في قائمة سفر الفريق و قبله طبعا اسم المدير و نائبة و سكرتيرته و سائقه و السيد النقيب المحترم.
انه ضحية نرجسيتنا و اهتمامنا بالابهارات و الظاهر من الاشياء و زيفه الخارجي,انه ضميرنا المخمول,انه نجمنا الذي نهتدي به,و قمرنا في حالك سواد العتمة,انه النور بكل معانيه الذي يضيء الحياة قبل المسرح,انه الفنان القدير بلا جمهور ..فلماذا لا نراه يكرم على جهده بكبرى مهرجاناتنا الدولية كباقى الذين اعطوا من وقتهم و جهدهم و مهجهم و حياتهم للمسرح و ذاقوا الامرين من معاناته و عالمه المنهك,انه جندي المسرح المجهول المنسي على جنبات ذلك اللوح المقدس.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون