صرخة عاشرة في وجه النقد المميت.: نقاد عرفوا المسرح على حين غفلة
2023 ,08 تشرين الأول
( فرانز فانون )1925 - 1961
يوسف الحمدان:صوت العرب – الاردن. 
ما أسهل المسرح بالنسبة إليهم، ما أسرع استنتاجاتهم حول تفاصيل العروض المسرحية التي يشاهدونها ، كل العروض بالنسبة إليهم واحدة ، إذ يتساوى التافه مع المبدع، مثلما يتساوون في ثقافاتهم، ودون أدنى اختلاف أو جدل وكما لو أنهم ولدوا جميعا في زكيبة واحدة..
المسرح هو أن تفكر وتفكر وتفكر ثم تفكر لعلك تعمل .. فكيف بمن يأتيك جاهزا ويرمي عليك بعدته موقنا بأن كل شيء بات مفهوما وواضحا ولا داعي لأن نعمل عقلنا فيه أو حتى نوليه من جهدنا أدنى تفكير؟ ..
يشغلنا المسرح , نمارسه , نتحاور حول همومه و إشكالاته ، نستقصى زمنه وما وراءه , نقرؤه و نتابعه, نعيشه ونحياه , نشاهده ونتفاعل معه , نقصده أنّى كان ونجسده , نستحضره في فكرنا ويومياتنا وتجاربنا و رؤيانا , نمتسي به ونسامره , نراه أجمل الصبايا وأخصب الفنون , نغريه بضجيج أجسادنا فيفتننا بغموضه , يفترسنا فضاؤه ويجذبنا أفقه , نحاكيه فيغايرنا , نتخيله فيحققننا , نتوحده فيمزقنا , نكونه فيُمسئلنا , نتشاكله فيمشكلنا , نعاينه فيختبرنا حيث لا خلاصة و لا نتيجة , يباغتنا بشكوكه ويعتقنا بسحره , نستضيفه في جلوتنا فيأسرنا وهجه , نبحثه فيكتشفنا , نرصده فيجتازنا . 
قيل .. وما أكثر ما قالوا وافتوا.. أنه الخشبة وحدها , الخشبة بالقاعة و الصالة , قال : لا يكفي ..
قيل أنه الشارع / المقهى / المنتزه / البيت / الأثر / المدرسة / العربة / المرفأ / الساحة / الميدان / الملعب / المأتم / الحلقة / السفينة ، قال : لا يكفي ..
 قيل : ربما أحدهم , قال : ربما بعضهم أوكلهم , أو ربما لست أحد من كلهم أو أحد في كلهم أو بعضاً من أحدهم ..
 قيل :  أنه النص حين يتجسد , قال : تجسدت قبل النص وبعده ,فاقرأوني بالتي تفتض أحرفها في جسدي و تتخلق فيني دون أبجدية ..
قيل : وما النص ؟ قال : علمه في سورة الهتك وسفر المخاض..
 قيل أنه الشخّاص حين يترجم النص / الحديث / الشخصية / الحوار على جسده , قال : لم أعد حوارا في النص ولم أعد شخاصا مترجما , كلما استنفِر طاقة خلية في جسدي تغويني أخرى أكثر تأججا و إبهاما و إغراءا , كلما أتلبس شخصية في النص , تؤازرني رغبة الشطط و الجنوح حد الخلع الى أن يستوي أمر خلقي ..
 قيل : وما الجسد , قال : يقال أنه شخّاص تناسلت فوضاه في هجوع الخليقة فتأبدها الأرق , و يقال أنه الذي آثر أن يتجسد في مسام الريح ويغترف الزوابع .
قالوا عن الجسد أنه قامة ملؤها لحم ودم وعظم وحياة ففيم نختلف ؟ قال : لا نتفق حتى يتبين سر القامة في أصبع دون سواه فيها , أو في نأمة ابتدعت ضلالتها في كل محدثة فارطة ..
قيل أنه المخرج حين ينظم المتناثرات ويفسرها وفق ما يرتئي وفي أي بيئة يشاء ,  قال : اختلف النص معي لأنني انتهكته , بعثرته , تجاوزته , ألغيته , بعثت حياة فيه ربما يرفضها , أو ربما يحلم بها , أو ربما يلتبس فيها , أخشى أن أكون منظما فتسيجني أسوار الذاكرة حيث لا منفذ للمخيلة ولامجال للقرار , أخشى أن أكون منظما فلا أرى في بيئتي غير جسد يشاكلني , أو يحتذيني ..
قالوا أن النظام يعني طوابير العسكر في الضبط ,طوابير المدارس في تهيؤات العصا , عجين الطاقة في عجلة الروتين , قال أخشى أن أكون مفسرا فلا أغادر رؤية الباطن والظاهر في المتحصل و الملموس , أخشى أن يفسر المفسّر بالمفسِّر عنه ..
قيل وما المخرج ؟ قال : خلق مغامر دائب التجسد في المختلف و المغاير , هو المتحول ، المتجدد ، اللا مستقر ، (( كل يوم هو في شأن ))  .. 
قيل وما المخيلة إذاً ؟ قال : إبداع تتجلى فيه قدرة الخلق حين تتقد , إنها طاقة تنفذ من رحم المتحرك المألوف لتصوغ المدهش في حيز الساكن , إنها بؤرة الاشعاع في فضاء العرض ..
قيل أنها عضلة ناشزة في الجسد , قال : مِفنٌّ كله الجسد إذا اعترته المخيلة ..
قيل أنه التواصل بين العرض و الناس , قال : اقتربت منهم حد التوحد , اغتربت عنهم حد العزلة , واضح كالفضيحة , مبهم كالظلمة , أحيانا كثيرة لا أعرف سببا لاقترابي أو اغترابي , لوضوحي أو إبهامي , أحيانا أدرك أنني لازلت طفلا يلعب , يواصل اللعب ويخترع أجمل اللعب و يدعو – دون قصد ـ الأخرين لمشاركته لعبته , بعضهم يستحسنها وبعضهم يأنفها أو يملها , فبرائتي شفاعتي , وأحيانا أشعر أن هناك أجسادا مترهلة وعقولا بليدة فأخشى عليهم و ربما على نفسي من هذا الداء الوباء ، فاستحث كل طاقة الجسد على الحركة وتجاوز حالة الموت . 
بعضهم يعتقد أنني قارب نجاة فينجو بنفسه ويجسده معي , وبعضهم يعتقد أنني طفل مشعوذ فيستكين إلى مواته خير من أن يفقد عقله , و أحيانا أتأكد من أنني الاستثنائي المبدع من بين هؤلاء الناس فأزاول مهمتي دون أن ألتفت الى أحد ولم يدر بخلدي قط إن كنت المتواصل مع الناس أو المغترب عنهم , ربما يتواصلون معي في غموضي لكن علي إزاء كل ذلك أن أنطلق من القيمة الاستئناثية لمفردات عرضي ومدى تأثيرها عليهم وليس العكس , شيء واحد أطمح إليه ، ولا أعرف إن كان حقيقة أم لا ، وهو أن يكون كل الناس استثنائيين مبدعين مثلي فتصبح الحياة كلها مسرح من المنطلق الإبداعي وليس من المنطلق اليومي , قالوا ربما تتوهم , قال : إنني أحلم كي لا أفقد المخيلة وأحيا بذاكرة من صدأ ..
سألت اريان منوشكين : ما هو المسرح ؟ فلم تجب طيلة التجربة , ونحن على حين غفلة أجبنا ! ..
" صلاتي الأخيرة  :
يا جسدي اجعل مني دائما  إنسانا يتساءل "
 ( فرانز  فانون )1925 - 1961طبيب نفسي 
      و فيلسوف سياسي مارتينيكي
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون