القطبية واللّاقطبية و"مفارقات القوّة".
2023 ,06 تشرين الأول
*د.عبد الحسين شعبان.
صوت العرب:بيروت - لبنان.
أعادت الحرب الروسية - الأوكرانية طرح موضوع القطبيّة واللّاقطبية بحدّة شديدة، على الرغم من أن الجدل والنقاش حوله لم ينقطع نظريًا وعمليًا، منذ انتهاء عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات بانهيار الكتلة الاشتراكية وتحلّل الاتحاد السوفيتي. 
ولكن النظام الدولي الجديد الذي قام على الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة لم يترسّخ، إذْ سرعان ما واجه تحدّيات عديدة ومختلفة أخذت تنمو وتتّسع، خصوصًا بعد انفراد واشنطن بقرار غزو العراق في العام 2003 من دون ترخيص من الأمم المتحدة، وبمعارضة من جانب ألمانيا وفرنسا، أكبر دولتين أوروبيتين، وأهم قوّتين في الاتحاد الأوروبي.
وكان سعي واشنطن قد انصبّ على منع تشكيل أيّ قوّة قطبية مستقلّة، بما فيها الاتحاد الأوروبي حليفها، إضافة إلى اليابان، فما بالك بالصين وروسيا والهند وغيرها، إلّا أن عوامل عدّة ساهمت في تعزيز مواقع أقطاب جديدة منافسة لواشنطن، دون أن يعني ذلك فقدانها مصادر جبروتها وسيطرتها.
وحين أصبح فلاديمير بوتين الرئيس الرابع لجمهورية روسيا الاتحادية في 7 أيار / مايو 2007، سعى لترميم الاقتصاد المنهار، وتطويق ظواهر الفساد والعنف، في إطار توجّه مركزي اعتبره الغرب تراجعًا عن الديمقراطية، لاسيّما بتقليص بعض الهوامش الصحافية والإعلامية، والتضييق على المعارضة. وخلال فترة حكمه انتعشت الرغبات باستعادة موقع روسيا، وتغيير توازنات القوّة لتكون بلاده أحد الأقطاب الأساسية في العلاقات الدولية، وتدريجيًا الانتقال من القطبية الأحادية إلى القطبية التعدّدية. 
وإذا كانت القطبية تعني هيمنة قوّة دولية كبرى، أو قوّتين أو أكثر، على العلاقات الدولية، فإن اللّاقطبية، وهي مرحلة انتقالية، تعني أن العالم فيه عدد من الفاعلين الذين يمتلكون أنواعًا مختلفة من القوّة، بحيث لا يمكن فرض إرادة قوّة أخرى عليهم. وهكذا فاللّاقطبية هي حالة من التوازن لا يستطيع فيها طرف فرض إرادته على الأطراف الأخرى. وهي ليست حالة جديدة في العلاقات الدولية، فقد شهد التاريخ فترات انتقالية تصدّعت فيها قوى وامبراطوريات كبرى أو أفل نجمها بفعل اصطفافات وتحالفات جديدة، كانت الحروب أحد سيناريوهاتها الأساسية، وكلّ حرب تنتج بعدها موازين قوى جديدة لتقاسم المصالح الدولية. وهكذا تتحوّل اللّاقطبية إلى قطبية، سواء كانت ثنائية أم متعدّدة.
ويمكنني القول أن بدايات مرحلة اللّاقطبية الجديدة بدأت باحتلال العراق العام 2003، الأمر الذي استنفذ الولايات المتحدة حتى اضطرت إلى الانسحاب العام 2011، بعد أن خسرت سمعتها، ونحو تريليوني دولار أمريكي و4800 قتيل، وما يزيد عن 20 ألف جريح ومعوّق، وأدّى ذلك إلى صعود قوى جديدة، كان في مقدّمتها الصين وروسيا، إضافة إلى اليابان والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، علمًا بأن الاتحاد الأوروبي، الذي بدا كقوّة حليفة للولايات المتحدة تأثّر باهتزاز موقعها من جهة، والاختلافات التي ظهرت بينه وبينها من جهة أخرى، باستثناء بريطانيا، التي ظلّت على ولائها لواشنطن وتسير في ركاب استراتيجيتها.
وقد عملت واشنطن كلّ ما في وسعها لمنع تشكيل قطبية تعدّدية جديدة، بما فيه اللجوء إلى نظام عقوبات غليظة، وخصوصًا في فترة الرئيس أوباما ضدّ روسيا، وفيما بعد ضدّ الصين، فضلًا عن محاولة عزل الدول والحكومات التي تُبدي اعتراضًا على توجّهاتها في استمرار هيمنتها على العلاقات الدولية.
ولم يكن القرار الروسي باستعادة شبه جزيرة القرم 2014، وشن الحرب على أوكرانيا في 24 شباط / فبراير 2022، سوى محاولة جديدة لتغيير موازين القوى، وكسر الإرادات للانتقال من اللّاقطبية إلى القطبية. ويمكن إدراج موضوع دعم روسيا لسوريا في هذا الإطار، فضلًا عن قوى إقليمية أخرى لكلّ أهدافها، مثل إيران وتركيا، وذلك كأحد مؤشّرات السعي لرسم خرائط جيوسياسية جديدة لإنهاء نظام اللّاقطبية، دون نسيان دور واشنطن في كبح جماح تلك المحاولات، سواء بمساعدة أوكرانيا أو استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، خصوصًا بعد تشكيل التحالف الدولي ضدّ داعش واحتلال أجزاء من سوريا.
صحيح أن الحرب بين روسيا والولايات المتحدة تبدو صعبة، بل ومستحيلة أحيانًا، لأنها ستؤدي إلى فناء البشرية بسبب السلاح النووي، لكن الحروب بالوكالة والحروب الإقليمية بما فيها أوكرانيا ستكون بديلًا عن الحرب المباشرة، وهو ما كان يجري في فترة الحرب الباردة 1946 - 1989، التي شهدت اندلاع عشرات الحروب الكبيرة والصغيرة، دون حصول مواجهة عسكرية واحدة بين المعسكرين.
وقد تشهد العلاقات الدولية في المستقبل القريب نوعًا من التوازن، في إطار نظام دولي جديد، علمًا بأن التعدّدية القطبية قد تحدث ليس بفعل ما يسمّى بالتمدّد والتقلّص، إذْ قد يكون واردًا وجود أقطاب عديدة مع تميّز لأحدها، كما هي الولايات المتحدة اليوم، ولكن دون تفرّدها، وهو ما نظّر له جوزيف ناي في كتابه "مفارقة القوّة الأمريكية"، يقابله تنظير آخر لانزياح القوّة الغربية بتمدّد "القوّة الآسيوية"، أو ما سمّي "بالقرن الآسيوي"، أي الهيمنة بلا احتلال.
*اكاديمي ومفكر عربي.
  
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون