خالد الطريفي: الذاكرة الأقوى حضورا من الموت .
2023 ,24 أيلول
يوسف الحمدان:صوت العرب – الاردن.
صديقي المشاكس المحارب الساموراي القديم والمتجدد ، ضوء الفوانيس المشع في أيامنا المسرحية .. خالد الطريفي ..
كنت على يقين تام بأننا سوف نلتقي قريبا في إحدى واحات أو فضاءات المسرح في إحدى بلداننا العربية لنتبادل معا ( تي شيرتات ) الأخوة والمحبة كما اعتدنا بعد كل نزال جميل في المسرح وحوله مع من نحب ونختلف لنتيقن بعدها بأنه لا يزال في الرأس جنون لا تكفيه كل نقاشات وجدالات المهرجانات والأصدقاء والأعدقاء أيها الساخر على القدر والمصير وكأنهما من صنع روحك ، متى شئت أحببتهما ومتى شئت استغنيت عنهما ..
كنت على يقين بأننا سوف نلتقي ، ولكن هذه المرة خاتلتنا السخرية يا صديقي حد الجفاء والقسوة ..
خالد الطريفي كما عرفته .. يرتدي نظارته السوداء ويصلب قامته العريضة الباذخة بالهيبة ، ويعدل من إسكارفه وياقته ويهز أسفل طرفي ( جاكيته ) المفتوح وقميصه المنسدل خارج بنطاله ( اللينين ) غالبا ويمضي بخطى واثقة وكما لو أنه بانتظار مهمة صعبة سيحسم أمره وأمر من معه فيها .. 
في الطريق يختصر الكلام ويعلق على أحد المارة بكلمة ساخرة دون أن ينتظر جوابا ممن معه ..
حين يصل إلى قاعة العرض ، يجلس في مقعده منتصبا وإذا لم يعجبه العرض التفت نحوك دون أن ينبس بكلمة  واحدة ثم يعاود مواصلة العرض وفجأة ودون أي تمهيد يتمتم ببعض الشتائم الاحتجاجية تعبيرا عن عدم رضاه من العرض موجها وجهه صوب بوابة الخروج لاكزا إصبعه في في يدك أو خصرك داعيا إياك للخروج أو مستأذنا منك لعدم قدرته على متابعة العرض ، وإذا لم تستجب لدعوته ينظر إليك بارتياب واحتجاج ثم يبتسم ويغادر حاسما أمره بتوديعته المعهوده ( سلام عليكم ).. 
خالد الطريفي الذي عرفته بهيبة أسد .. يتمتع بصوت رخيم وضحكة ساخرة وأحيانا ودودة إذا أعجبه كلامك .. دائما ما تكون الكلمات النابية التي يطلقها مِلـْحا لكلامه واحتجاجه .. 
لا تُطل معه في الحديث عن السياسة والحزبية .. حتما سيغادرك فهذا الحديث بالنسبة له ماضٍ وولى واندثر .. 
هو كالطفل في تصرفاته وكالحكيم في هيئته وإصغائه ، حنون وجميل ووديع عندما يلتقيك ، يجمع التناقضات السلوكية كلها في مجالسته معك ، بالرغم من أنه كتلة من الاحتجاج والرفض ولكنه في الوقت نفسه قامة كاريزمية يعشقها المسرح وجمهوره ومحبيه ..
أول لقائي به كان في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1989 ، هناك تبادلنا أول ( التي شيرتات ) ومن ثم أصبحت عادة في أغلب اللقاءات ، بعدها التقينا بمهرجان الأردن المسرحي ، وهناك لم ولن أنسى تلك الليلة الباذخة بالفن والحب التي جمعتنا سويا في منزل الصديقة سمر دودين التي كنت حينها عضوا معها بلجنة التحكيم ، وهناك ، في هذا البيت ، تعرفت على خالد الطريفي الطفل الجميل الحميم وهو يغني بجانب الفنان محمد نوح وبحضور الفنان الأردني الكبير الراحل هاني صنوبر . 
ثم تواصلت اللقاءت حتى رأيته ثانية في مونودراما ( أنا لحبيبي ) لمؤلفها ومخرجها غنام غنام في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ، وكنت بسببه طبعا أغادر فندق الميريديان يوميا لأحظى بجلسات ومناقشات ومداعبات الصديق الحميم خالد الطريفي في شاليه روتانا الفجيرة وبهوه ..
هناك لأول مرة أشاهد الطريفي ممثلا فردا وحيدا واحدا مستوحدا بفضاء العرض كله ، يتميز بحضور مهيب بل هو الهيبة نفسها وكما لو أنه من الممثلين الكلاسيكيين العظماء الذين عرفهم تاريخ المسرح ، وعندما انتهى العرض وأعقبته الندوة التعقيبية ، كان الطريفي يصغي لكل رأي يقال حول دوره وأدائه ، سلبا أو إيجابا ودون أن يعلق أو يدافع ، فقط يصغي .. 
وما أجمل جلساتنا في غرفة الصديق الفنان إيهاب زاهدة قبل عامين بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي كان الحوار بينهما مسرحية في حد ذاتها بصحبة الأصدقاء ، ولن ننسى غرفة 23 في فندق بيراميزا المجاورة لحمام السباحة التي كانت تمتد بنا حتى خارج فسح الفندق ، وبحضور الطريفي طبعا يكون الأمر مختلفا ، فهو يرفض الواقع العربي برمته ، ويميل للعروض التي تعج وتنضح بالسخرية المرة حد الشتم ، كما في مسرحية الرهوط للمخرج التونسي عماد المي حيث كان حينها عضو لجنة تحكيم بمهرجان الأردن المسرحي ، وإذا لم يعجبه عرض ما لا يعلق حتى تحاول جرجرته للكلام ، فيختصر ولا ينتظر تعليقا 
وعندما ينتهي من تعليقه يعقبه بعبارته الحاسمة ( خِلِص الكلام ) ويصمت وهو يبتسم ، وإذا تنازل عن رأيه يضحك بود وخجل وكما لو أنه يؤكد رأيك ويعترف بخطئه ، وعندما يحتد النقاش أحيانا ، يغادر الغرفة أو لعله كان يخاتل المرض بالغضب والعتب ..
هو شعلة من أهم مشاعل مسرح الفوانيس بل المسرح الأردني ، يدعوك لانتقاد دوره في المسرحية ويضيف عليك ما هو أكثر قسوة في النقد على دوره .. والأكثر غرابة في الأمر هو أنني لم أسمع خالد يوما يتحدث عن أدواره التي أداها في المسرح ، أو المسرحيات التي أخرجها ، فهو ليس مهووسا كما فنانين كثر للحديث عن ذاته ، وهو في هذا السياق يذكرني بالصديق الفنان الرائع محتسب عارف الذي ينتمي إبان معرفتي به بفرقة الفوانيس . 
محاطا بأصدقائه وأبنائه وكما لو أنه ( البابا ) فعلا أو بابا نويل يأتي والحلاوة بيده ليوزعها على من يحبهم ، وما أن يراهم حتى ترى إشراقة الوجه على محياه ، يسرقونه منك وهو الهارب من لجنة التحكيم ليقضي بضع وقت معي قبل العرض ، وهنا يتحول البابا تلقائيا ودون سابق ترتيب إلى ( المسرحجي ) .. 
وما أغرب هذا الأسد الساموراي .. يذهب للعلاج وكما لو أنه مستعد لمواجهة مهمة تحد أخرى ، لعله بانتظار دور مسرحي جديد ، أو لعله سيتصدى لإخراج عرض مسرحي جديد ،  ويغادر الحياة ( المسرح ) وهو يبتسم ـ كما أومأت بتلك الابتسامة الصديقة الفنانة أمل دباس في آخر زيارة له قبل رحيله بسويعات عبر حسابها في الفيس بوك ـ وكما لو أنه يقول تمكنت من هزيمة الموت أخيرا والعرض قابل للنقاش الآن . 
بانتظارك قريبا أيها الطريفي المفرط في التطرف مع من تحب وتختلف ، كانت هذه الكلمات صدرت مني في آخر لقاء به في المغرب ضمن مهرجان الهيئة العربية للمسرح عام 2022 ، حيث كان عضوا بلجنة التحكيم .. 
صديقي خالد الطريفي .. أسد المسرح الأردني .
لن أعزيك ولن أقول وداعا لأننا سنلتقي قريبا في مكان ما يعج بالضحك والسخرية المرة القاتلة التي نموت بسببها كل مرة ثم نحيا مجددا لنبحث عن سخرية أكثر مرارة من القتل .. سنلتقي قريبا لأن الذاكرة أقوى حضورا من الموت .. إلى لقاء صديقي .. إلى لقاء صديقي ..
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون