المسرح صناعة وتجارة عالمية.
2023 ,14 أيلول
*حافظ خليفة:صوت العرب – تونس.
اغلب مديري المهرجانات المسرحية العربية لا يريدون الإقرار ان الفرق الاوروبية و حتى الأمريكية الشمالية المهمة لا تشارك إلاّ بمقابل مادي لأنها "محترفة"،و الحل عادة لضمان مشاركتها الاتكال على اتفاقية مع المركز الثقافي لبلدها بالوطن المنظم للمهرجان، و هذا ايضا ليس ضمانا للجودة لانه حتى من خلال هذا الباب،هناك توازنات وولاءات حزبية داخل البلد الاوروبي او الامريكي.
إذا أردنا تطوير المهرجانات العربية ببرمجة قوية و بعيدة عن الاجترار و التجارب المتواضعة وطنيا او دوليا،لابد من حث ادارة المهرجانات للاستقلالية المادية بجعل إدارتها تعمل طيلة السنة او لسنوات لجلب المستشهرين و حجز دورها بطابور جلب الفرق العالمية المسرحية بأسماء المسرحيين القديرين عالميا،و التي عادة ما يصل الحجز الى قبل أربع و خمس سنوات.
لم يفهم بعض مديري المهرجانات المسرحية العربية "الكبرى" ،ان المسرح صناعة و لديه مؤسسات انتاجية و توزيعية بالبلدان الاخرى، و ليس هواية او ترفيها،او تصعيدا لهواجس او جلبا لفتات الدعم المادي المؤقت من الدولة،او ارضاء لنزوة فنية في جائزة او لضمان سفرة او اثنين لمجرد التواجد، و كذلك هو الشأن للنقد او الصحافة و المحاضرات بالندوات كلها تصب في مصب الاحترافية و التفرّغ كمجهود مبذول،و الامر ليست له علاقة بالوطنية او الانتماء حتى نلوم على الجميع وجوبا التفاعل و المشاركة مجانا هذا إن لم نتطرق إلى وجود احترام حقوق الملكية الفكرية و الفنية و جعل قوانين صارمة لاحترام للنصوص الاصلية و الموسيقى و السينوغرافيا و الملابس و العرائس و الانارة و غيرهم من الآليات..، مع التأمين لجميع المشاركين.
انظروا إلى cirque du soleil, انظروا إلى اعمال بيتر شتاين و بوب ولسون، او الالباني كريستيان لوبا،او الانقليزي سيمون باك بورني او الايطالي روميو كاستيللوتشي ،او البرتغالي تياغو رودريغيز، انظروا إلى اعمال بيتر بروك و بينا باوش سابقا ،التي تُحجز قبل خمس سنوات من المسارح العالمية و احيانا حتى قبل ان تبدأ في التمارين.
بتونس عايشنا و شاهدنا كيف يصبح المسرح صناعة و تجارة فنية راقية، و هذا يعتمد على عقلية توزيع مختصة و بكنش عناوين خاصة من خلال تجربة المخرج الفاضل الجعايبي مع الاستاذ حبيب بالهادي،و شهدنا كيف تراجع هذا الوهج للتواجد الدولي (خاصة الاوروبي) لابداعات الجعايبي عندما افترقا،و لا يمكن أن انسى تجربة المخرج توفيق الجبالي الذي يصر دائما على خلاص منحة مادية إزاء عرضه المسرحي عند تلقيه اي دعوة من اي مهرجان عربي و لانه اصل الشيء،بالمهنة المسرحية أمام قناعة العديد من منظمي المهرجانات ان الاقامة و المشاركة وحدها تكفي كفضلا منها عليهم،و الحال ان صاحب الفرقة المسرحية يخسر اموالا طائلة لتوفير التذاكر و التاشيرات إن وجدت مع منح للفنانين إن كانوا من المحترفين.
ان المهرجانات الدولية نافذة و فرصة لاكتشاف اهم الابتكارات و الإبداعات المسرحية الجديدة و للتسويق ايضا، لأهل البلد و الضيوف و لهذا وجب الحرص الكبير على برمجة الافضل و العمل على جلب التفرّد و المتميّز عالميا،حتى لا تطغى الكآبة او الرتابة على برمجة المهرجان،و لكننا مادمنا نعتمد على نشر استمارة و استقبال الطلبات للمشاركة و لجان للمشاهدة لما تم إرساله فحسب فهذا لن يضيف شيئا لانه ببساطة شديدة و للأسف لسنا مُعتبرين او لا مُصنفين باجندة و جدول اهم المهرجانات العالمية.
احيانا اتحدث مع زملائي المسرحيين بايطاليا و اتكلم بافتخاري المعتاد بمهرجان ايام قرطاج المسرحية بتونس ،فينظرون الي باستغراب شديد ،لأنهم لا يعتبرون ان ما لدينا مهما،و الأصل في الشيء ينظرون إلى علاقتنا بالمسرح كعرب،بشكل بدائي و بسيط.
ان حديثي هذا ليس ضربا من ضروب الافتتان بالغرب بل فهم و معايشة لنظرتهم لما نقوم به و قيمته مع خصوصية ممارسته لديهم.
لقد بقيت تجاربنا في إطار الهواية المسرحية و حتى تنظيمنا للمهرجانات و ما زاد الحال بؤسا هو هذا التكرار المقيت لنفس الاسماء بموجب او بدونه و احيانا يصل الامر إلى تكرار نفس البرمجة لنفس العروض بعدة مهرجانات عربية،و اعتقد ان الحل هو البحث عما وراء الحجب عن مناطق الظل عالميا لمسرح جديد و مختلف، عن بذل مجهود إضافي بالسفر و البحث و خلق شراكات لما وراء المعتاد و المستهلك،حتى نستطيع مقارنة انفسنا بالاخر البعيد.
لقد وصل مسرح العالم العربي إلى مرحلة اللابد
ان يتخطى فيها عتبة الهواية في الانجاز و التنظيم و التوزيع ،(و المقصود بالهواية هنا التطوع) إن أراد التطور في برامجه و ملتقياته و مهرجاناته، و لا أعتقد أن جهود الهيئة العربية للمسرح كافية لذلك،عن الرغم من سعيها إلى توفير المنح المادية للمتعاونين و تذليل صعاب غلاء تذاكر السفر للفرق،علاوة على القيمة المجزية لمنح الجوائز،اضافة إلى الجهود الكبيرة لادارة المسرح بامارة الشارقة، و كل هذا المجهود المنبثق من العقلية للادارية الإماراتية التي بُنيت على اسس لتجارب اقتصادية و تجارية عالمية إن لم نقل اوروبية،و نتيجة لارادة سياسية لحاكم يحب و يؤمن بالمسرح كوسيلة للنماء بالشعوب.
ان المسرح فن و صناعة و تجارة و توزيع و تسويق من خلاله يعبر الفنان عن رؤيته للواقع و العالم و يعيش به كمورد رزق و كمتفرّغ،لا كموظف يمارس المسرح باوقات فراغه،و بعض شعوب و بلدان عربية للاسف لا تعتبر المسرح مسألة حياتية او ضرورة معيشية،نظرا لرزحها تحت وطأة الفقر و الخصاصة،و الاضطرابات،و على المشرفين للمهرجانات اتخاذ التدابير اللازمة لخلق خصوصية و ريادة و تميّز و ثراء لمضمون برمجتها،حتى لا نقع في الاجترار و نبقى نتنافس بشكل قطري او اقليمي او قومي ودي بنفس الأدوات و المستوى،و يكثر فينا البكاء و العويل و الأحكام التنظيرية الواهية رافعين كالعادة و للمرة الالف شعار (أزمة المسرح العرب).
*مخرج و منتج مسرحي تونسي
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون