الرحلة المستعادة.. قبل 35 عاما من "وجدة"... إلى "طنجة".
2022 ,16 كانون الثاني
*د.خالد شوكات: صوت العرب – تونس.
فجأة تكتشف أن ابنك أصبح في طولك وإنه صار رجلا يمكن ان تتخذه رفيقاً، في السفر وفي الحياة، وما الحياة سوى رحلة قصيرة مهما طالت، وما المرء إلا عابر سبيلٍ استظل بشجرة كما يقول الحديث النبوي الشريف.

وهكذا برقت الفكرة في ذهني. كنت بمعية صهري والد زوجتي واسمهسي جلال، وابني محمد جلال، في مقهى بمارينا الناظور، الميناء الترفيهي الجديد لهذه المدينة المتربصة بمليلية الجيب الإسباني المحتل، نجلس قبالة المحتل تماما لا يفصلنا عنه إلا خليج من ماء البحر، وهو الذي أغلق أبواب سوره الحديدي عليه منذ بدأت الكورونا تطيح بأرواح البشر قبل ما يناهز العامين، وكأننا نحيى أجواء حرب عالمية أولى أعقبتها جائحة حمى إسبانية .

كنا ثلاثتنا نحتسي القهوة ونستحضر بعض الذكريات في ساعةمغربيةرائقة، بدأت الشمس فيها تسقط على جبال فرخانة المجاورة، تلك التي رابط فيها جيش الشيخ محمد بن عبد الكريم الخطابي قبل مائة عام بعد تحرير منطقة الريف بكاملها، إلا مليلية التي لا يعلم المؤرخون حتى الساعة لماذا تركها تتنفس حية تسعى، وفجأة تذكرت أن جلالهكذا نناديه اختصاراً وتيمنا بمولانا جلال الدين قدس سره- قد بلغ الخامسة عشرة، وانني عندما كنت في سنه قمت بمغامرتي الاولى في السفر الى هذا البلد الذي أحببته، وانا بمدين له بالكثير، فعزمت على ان استعيد معه الرحلة بحذافيرها، واذهب معه الى نقطة البدايةوجدة”.  

قبل 35 عاما..

كنت مثل جلال تماما، أتممت لتوي المرحلة الإعدادية منتصف ثمانينيات القرن العشرين وأتهيأ لولوج المرحلة الثانوية، وبعد أن كان أفقي لا يتجاوز حدود الوطن،  أضحى الأفق مغاربيا، ففي قريتي الوادعةالمزونة، اكتشف الناس الطريق الى المغرب عبر الجزائر الشقيقة. كانت مجموعة من النسوة يذهبن إلى وجدة والناظور في رحلة تدوم أسابيع بالسيارة، ليهدم بعدها بسلع متنوعة وملابس وأشياء أخرى غير معلومة، يبعنها من منازلهن ويريحن ما يشجعهن على السفر مرة اخرى. قلت في نفسي اذا كانت النسوة لا تخشين الطريق فهل يليق بي أنا أن أخشاه، لا والله، وعزمت ثم توكلت. فاتحت والدي في المشروع وأصررت، ووافقني رغم اعتراض الاهل والاصدقاء، قالوا له كيف ترسل طفلا في رحلة مجهولة كهذه، ولكنه أبى الإنصات إليهم، وأخبرهم بثقته في ولده رغم حداثة سنه..زودني بالمال على قلته، وصحبني حتى آخر محطة قطارغار الدماءأوغارديماو” (كما تنطق بلهجة أهلها).. تركني هناك وأنا اليوم على يقين بأنه ما كان ليتركني وحيداً لو لا رغبته في أن يصنع مني رجلا يعتمد عليه، والسفر مدرسة تصنع الرجال.

وجدة..الحدود المغلقة

بعد خمسة وثلاثين سنة من تلك الرحلة، تغيرت الدنيا بل انقلبت أحوالها تماماً، وعادت ترتيبات السفر أيسر بكثير، وعندما حسمت الأمر باستعادة السفرة في مسارها نفسه، وعبر المدن ذاتها، قمت خلال نصف ساعة فقط، عبر الانترنت، بحجز الفنادق التي سنقيم فيها، في المدن الخمسة التي سنمر بها، وكان ذلك ضربا من الأحلام حين تركني والدي بمصيري في محطة غار الدماء قبل ثلاثة عقود ونيف..حددت تاريخ الانطلاق، وكانت سيارة الأجرة يومين بعد القرار، تقطع بنا في سرعة جنونية، المسافة التي تفصل الناظور عن وجدة، الطريق الساحلية التي تمر  بمنتجع السعيدية، قبل أن تتجه يميناً إلى سهل أنجاد التي تحتل مدينة الألف سنة موقع القلب فيها.  

كان الفندق الذي اخترته في وجدة يقع في الساحة القديمة لمحطة القطار، وسط المدينة التي أعرفها جيدًا، فمن جامعتها نلت شهادة الإجازة في الحقوق، بعد ان قضيت في مقاعد الكلية اربع سنوات في بداية التسعينيات، كانت من اجمل سنوات العمر. هاتفت بمجرد وصولي الصديق خليل البوزيدي الذي لم تنقطع صلتي به وبعائلته طيلة الربع قرن الاخيرة. وخليل ناشط مدني ورئيس جمعية الشباب الاورو-متوسطي في المغرب، وهو ابن الحاج محمد البوزيدي رحمه الله احد أوائل خريجي المدرسة الوطنية للإدارة بباريس واحد زملاء الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وهو شريف النسب تعود جذور عائلته الى الدوحة النبوية المشرفة عبر الجذع الادريسي، ولنا قصة مع الأدارسة ستتواصل في فصول الرحلة التالية.

لم يبطئ خليل بالمجيء إلينا، طيب وخدوم كعادته دائماً. رجوته أن يأخذنا الى بوابةزوج ابغال الحدوديةمع الجزائر. كنت اريد ان ننطلق من أقصى نقطة في الشرق المغربي، وان يقف جلال بنفسه على الجريمة المرتكبة في حق أبناء جايه والأجيال التي ستليها، فإغلاق الحدود الجزائرية المغربية لم يكن إغلاقا للحدود بين بلدين وشعبين شقيقين بل إغلاقا للحركة الطبيعية امام جميع بلدان المغرب الكبير، وخيانة لأمانة الاباء والاجداد، وضرب للمستقبل الذي يقتضي الوحدة لا التقسيم.

عندما وصلنا البوابة المغلقة التي لا تبعد سوى 14 كيلومتر عن وسط المدينة، جلسنا في المقهى الذي عند البوابة، وفاجأنا خليل بإخبارنا ان هذا المقهى كان على ملك والده الراحل وهو الذي أنشأه أواسط السبعينيات قبل ان يبيعه. على جنبات الطريق الى وسط المدينة توجد عشرات المرافق السياحية والترفيهية التي تنتظر قدوم الاشقاء الجزائريين، من المدن القريبة خاصة، مغنية وتلمسان وسيدي للعباس ووهران، فالغرب الجزائري والشرق المغربي بلاد واحدة قسمتها الحدود المصطنعة الى شطرين، وهناك من يسكن على مسافة لا تبعد عن وجدة سوى كيلومترات لكنه يضطر الى قطع مسافة ألفي كيلومتر حتى يزور عمته او خالته التي تسكن فيها..انها صورة حزينة لواقع مؤلم يعيشه الناس منذ قرار النظام الجزائري إغلاق الحدود سنة 1994.   

فاس..أنوار الأدارسة

لم نطل المقام في وجدة. كانت ليلة واحدة لنستقل في صباح اليوم الموالي القطار إلى فاس، تماما كما فعلت قبل خمس وثلاثين عاما. فاس أول مدينة إسلامية بنيت في هذه البلاد. بناها المولى ادريس الابن بمعية أخواله الأمازيغ، الذين تحيط قبائلهم بها من الشمال والجنوب. “الريافةشمالا والشلوح جنوبا”. لقد تركه أمانة في بطن أمه كنزة البربرية، والده المولى ادريس الأكبر (دفين مدينة مولاي ادريس زرهون)، ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي وفاطمة حفيد رسول الله عليهم السلام جميعا، فلما ولد رعاه جده وأخواله حتى صار رجلا شاباً فأمروه عليهم وحاربوا معه حتى صار للأدارسة دولة مهابة، استمرت ما يناهز القرنين، وقد انتشر نسل ادريس الثاني في أنحاء البلاد المغاربية، حتى صار اغلب الزعماء والقادة والأئمة أدارسة النسب، من بينهم الامير عبد القادر الجزائري والملك الليبي ادريس السنوسي واخرون كثر، فيما استمرت فاس مشعة بأنوار الأدارسة إلى يوم الناس هذا.

في الطريق إلى أخي وصديقي الشيخ الدكتور عبد العزيز الكبيطي الادريسي، لزيارته والسلام عليه ونيل بركة الأدارسة منه، ولي معه وهو رجل التصوف والعرفان ذكريات طيبة في أرض الله الواسعة، أخبرني مساعده الدكتور محمد، وهو من أهل الله أيضا، عن حظ المغاربة من نسل النبي (ص)، مشيدا بفضل الأدارسة على بلاد المغرب، فلولاهم كما قال لما ترسخت عرى الاسلام ووحدة الشعب وساد الأمن والاستقرار هذه الربوع، مشيرا الى الشرف الذي نال اجداده وأبناءه وناله بخدمتهم.

كانت زيارة مركز الدراسات الصوفية والجمالية، ولقاء احد انوار الأدارسة، غذاء للروح والقلب ومبعثا للطمأنينة والسكينة، عززناها أنا وجلال بحضور ورد العصر في الزاوية التيجانية بفاس القديمة، ففي زاوية سيدي احمد التيجاني القطب الصوفي، الذي يأتي كل عام مئات الآلاف من المسلمين، خصوصا الاشقاء الافارقة جنوب الصحراء، لزيارته والسلام عليه، يقرأ المؤمنون الفقراء والسالكون والعارفون على السواء، ورداً يومياً يذكرون فيه الله بعد صلاة العصر من كل يوم. وسيدي احمد التيجاني يعود في نسبه الى محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل المحض، وهو أخ المولى ادريس الاول وعم المولى ادريس الثاني.. نور الأدارسة قبس من النور الاكبر رسول الله (ص)، وقد غادرنا فاس ونحن نعبق بريحهم ونستدل على الطريق بضيائهم.  

مكناس..العاصمة الإسماعيلية

في مكناس وجهتنا الموالية بعد فاس، اخترت أن تكون إقامتنا في دار ضيافة تسمىرياض الذهب، تقع في باب عيسى في قلب المدينة العتيقة، التي لا تختلف في تصميمها المعماري وأزقتها الضيقة ودروبها الملتوية عن اي مدينة عربية إسلامية اخرى في المشرق او الأندلس، وقد كان الاختيار صائباً الى حد كبير، مريحا للعين والنفس والذائقة، حتى انني لما طلبت من جلال لاحقا ترتيب اماكن الاقامة في جميع المدن التي زرناها، منح إقامة رياض الذهب الرتبة الاولى بلا أدنى تردد.

الرياض بيت قديم يعود بناؤه الى سنة 1791، أي انه يحتفل هذا العام تحديدا بمرور 230 عاماً على إنشائه، وقد جرى اصلاحه دون ان يفقد قيمته التاريخية، بالحفاظ على ذات الطراز المغربي الاندلسي من الداخل، أما من الخارج فبابه عادي تجسيدا لفلسفة الاسلام في عمران المدن، حيث يستوي الفقراء والاغنياء في الظاهر، أما الباطن فالله به عليم.

غرفتنا كان اسمهاصحراء، لكنها لم تكن صحراء أبداً بل غرفة رائقة تتوفر على جميع سبل الراحة، تماما كغرف فنادق الدرجة الاولى، مع امتيازها عليهم بأصالة الذوق وفرادة الاثاث.أعلاها في السقف الذي يطل على المدينة بجزأيها القديم والجديد، ثمة جلسة بديعة خصوصا ساعة المغربية كما يقول اخواننا في الشرق، ومع ارتفاع الاذان من صوامع المدينة تجد نفسك في حلقة سماع تحلق بك بعيدا في السماء..الله أكبر.

رغم ان اهل الرياض قالوا ان عدد زبائنهم نقص زمن الكورونا، لكننا لاحظنا أن دار الضيافة كانت ملآنة عن آخرها، وقد تعرفنا على بعض الزوار الذين قالوا انهم جاءوا من كندا عن طريق البرتغال، وانهم أعجبوا بالرياض خاصة وبالمدينة عامة أيما إعجاب.

مكناس ذات هواء عليل يحلو المشي في شوارعها والتنزه في حدائقها الكثيرة الغناء، والتوقف بين الفينة والأخرى في مقاهيها ومطاعمها، لارتشاف كأس شاي منعنع أو كوبا عصير برتقال، سواء في الجزء الجديدة كحي الحمرية مثلا، أو في الجزء القديم غير بعيد عن ساحة الهديم، وذلك بعد ان تقطع الوادي الأخضر الفاصل بينهما. أما أهل مكناس فيشبهون أرضها الخصبة المعطاء، التي تغلب عليها شجرة الزيتون، طيبون يرشدون الغريب بكل ود الى مقصده، وقد افلح المولى اسماعيل احد اشهر ملوك الاسرة العلوية الحالية، عندما جعلها عاصمة وحلم بان يجعلها من اعظم مدن بلاده والعالم بأسره.. لقد أحببنا مكناس حقاً.     

طنجة..ملتقى البحرين

محطتنا الرابعة كانت طنجة. علاقتي بها خاصة جدا، فمنذ زيارتي الاولى لها قبل ثلاثة عقود ونصف، كانت قبلتي كل صيف، ولم اخلف وعدي معها حتى غادرت المغرب لاستكمال دراستي العليا في هولندا سنة 1994. كانت القصبة (البلدة القديمة ) هي وجهتي الاساسية غالبا. صرت اعرف أزقتها ودروبها وبنسيوناتها ومطاعمها الصغيرة ومقاهيها وساحاتها، فعندما يسقط قرص الشمس في بحر الظلمات (هكذا كان يسمى المحيط الأطلسي قبل اكتشاف امريكا)، تمسي القصبة أكثر إلفة وحميمية، ويصبح الجلوس في مقاهي ساحاتها أشبه باستديوهات الدراما المصرية، وعلى الرغم من وقوع طنجة في أقصى نقطة من الغرب الاسلامي، الا انها لا تخلو من روائح الشرق التي تعبق خاصة في الجزء العتيق منها، وتبدو الهوية الاسلامية المحافظة واضحة على ملامح اهلها وسلوكهم، فالمساجد كثيرة جدا، ومحيط المدينة يعج بالكتاتيب القرآنية وبحفظة الكتاب.

عدت مع محمد جلال الى القصبة هذه المرة أيضا، واخترت ان أحقق حلماً كان يتراءى لي عندما زرت المدينة أول مرة أنه بعيد المنال، ولكن ها هو يتحقق. كان فندق الكونتينونتال العريق الذي يحتل أعلى الهضبة ويقع قبالة ميناء طنجة المدينة، ويقال ان البرتغاليين هم من اسسه قبل ما يزيد عن المائة والخمسين عاماً، قبلة النخب الطنجية الأوربية والأمريكية أواخر القرن التاسع عشر وجزءا كبيرا من القرن العشرين، قبل ان تتراجع مكانته مع ظهور فنادق الأربعة والخمسة نجوم بعد الاستقلال، ومن اشهر الشخصيات التي أقامت في هذا الفندق وينستون تشرشل، لكنه بقي الى اليوم مبناً ذا قيمة خاصة، وما كان لطالب متواضع الحال أواسط الثمانينيات ان يفكر مجرد التفكير في الاقامة به. كانت بنسيونات القصبة المجاورة التي تؤجر غرفها بأسعار لا تتجاوز خمسة وعشرين درهما حينها، أكثر من كافية، فسرير للنوم وحمام للاغتسال وباب  بقفل هي غاية ما يرجى، وبقية المرافق من اكل وشرب تتكفل بتوفيرها المقاهي والمطاعم المجاورة.

وعلى الرغم من تراجع تصنيفه الى ثلاثة نجوم، ما يزال فندق كونتينونتال جراء موقعه المميز وشرفاته الساحرة التي تمنح المقيم نظرة بانورامية أخاذة على كورنيش مدينة طنجة الممتد على كيلومترات، يصعب ان يمنحها اي فندق اخر.

خصصنا لطنجة يومين كانا كافيين، للقيام بجولة في داخلها وفي محيطها القريب. لقد زرنا أسواق المدينة القديمة، وذهبنا الى رأس سبارطيل حيث يلتقي البحران المتوسط والمحيط الأطلسي، فترى بام العين مياهاً زرقاء ومياها اخرى اكثر زرقة، ومغارة هرقل التي نسجت حولها الأساطير، ومررنا بقصر مولاي عبد الحفيظ وحي مرشان التاريخي الذي كان سكن الأرستقراطية، ومشينا على الكورنيش لساعات، وتذوقنا الطعام اللذيذ في اماكن شعبية واخرى عصرية.

ما تزال طنجة تحتفظ بطابعها العالمي الذي اكتسبته خلال سنوات الادارة الدولية لها بين 1926 و1956، وما تزال فخورة بإقامة المشاهير من الفنانين والادباء والشعراء الغربيين فيها، وتفضيلهم إياها على مدنهم الأصلية، تماما كما هي فخورة بادبائها وفنانيها وشعرائها الوطنيين وفي مقدمتهم صاحبالخبز الحافيالراحل محمد شكري.. توسعت طنجة كثيرا خلال العشرين عاما الماضية، وعادت تمتلك بنية تحتية متطورة كأي مدينة اوربية، وآخرها محطة القطار بديعة التصميم وقطار البراق فائق السرعة الذي يصلها بالدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للبلاد في حوالي الساعتين..طنجة مدينة ابن بطوطة ما تزال مدينة تحب السهر في الفضاءات الخارجية حتى ساعات الفجر، ولهذا وجدناها غير منضبطة لقرارات حظر التجوال، وقد بلغنا ان السلطات متفهمة لخصوصية هذه المدينة..لكننا كضيوف عليها التزمنا بهذه القرارات.. حتى غادرناها إلى محطتنا الموالية، تطوان.

تطوان..عينان على الشرق والغرب

لا تبعد مدينة تطوان عن طنجة سوى حوال ستين كيلومترا، ويشكلان معا الى جانب مدينة الحسيمة جهة واحدة لها مجلس ورئيس، منذ اختار المغرب قبل سنوات السير في خيار لامركزية موسعة أو جهوية موسعة كما هو المصطلح القانوني المغربي. والسفر من طنجة إلى تطوان متاح بالباص وبسيارات الأجرة، واخبرني بعضهم بأن قطارا كان يربط المدينتين زمن الاستعمار، ولعل المكتب الوطني للسكك الحديدية له مخطط لاحياء هذا الخط خلال السنوات المقبلة، خصوصا وان الشبكة الحديدية المغربية تعتبر الأكثر تقدماً اليوم على الصعيد المغاربي والافريقي.

وتطوان تعني باللغة الامازيغيةالعينان، ولدينا في تونس مدينة بنفس المعنى الامازيغي هذا، ألا وهي تطاوين.

وكانت تطوان خلال الفترة الاستعمارية عاصمة المنطقة الخليفية الواقعة شمال البلاد وكانت خاضعة للاحتلال الإسباني. وقد شهدت المدينة خلال تلك الفترة نهضة عمرانية وثقافية، وكانت اول من احتضن مطبعة باللغة العربية، وشكلت لعقود عاصمة لصحافة الحركة الوطنية المغربية، تصدر منها عدة مجلات وصحف بلغة الضاد، ويزورها رموز الثقافة العربية والمغربية.

اخترنا فندقا في قلب المدينة، في الحي الكولونيالي الذي بناه المستعمر الإسباني، فندق دافئ بموظفيه اللطفاء الذين يعرضون من الوهلة الاولى مساعدة زبائنهم دون طلب، غير بعيد عن سينما لافينيدا المعروف، الموروث عن نخبة إسبانية لم تكن اقل ولعاً بالفن السابع من نظيراتها الأوربية، وقد ورث اهل تطوان عنهم حب الفن السابع، فأقاموا مهرجانا سينمائيا ذائع الصيت تخصصه السينما المتوسطية، واتخذ من لافينيدا قاعة عرضه الرئيسية.

زائر تطوان لن تفوته ملاحظة أن للمدينة عينان فعلا، عين على اوربا التي لا تبعد عنها سوى كيلومترات قليلة، سواء من خلال امتدادها في الارض المغربية عبرسبتةالجيب المحتل منذ خمسة قرون تقريبا، أو عبر مضيق جبل طارق، الذي منه عبرت سفن طارق بن زياد نحو اسبانيا، وأقيمت بعدها حضارة عظيمة، قال لي احد موظفي الفندق:” تعرف يا استاذ، نحن اهل تطوان مازلنا نحلم بالعودة الى الأندلس بلادنا الأصلية، وما زلنا رغم مرور قرون على طردنا نشعر باننا سنسترجعها يوما ما”.

عين تطوان الثانية على المشرق، فهي مدينة شديدة الارتباط بالهوية العربية الاسلامية، المقاومة والعروبة وفلسطين وجنين اسماء شوارعها وأشهر محلاتها، واهلها لا يترددون في التعبير عن مشاعرهم الودية ازاء ضيوفهم القادمين اليهم من الشرق. هذه المرة وعند زيارتنا لمصيفها، بلدة مرتيل الجميلة، وجلوسنا في احدى مقاهيها على شاطئ البحر المتوسط الرائع، لم يكتفي صاحب المقهى، بكلمات المودة التي أغدقها علينا، بل كان بين كلمة واخرى يغدق علينا بما لذ وطاب، ويردف قائلاهذه هدية من المحل”.  

هكذا غادرنا تطوان ونحن نشعر بأننا نفارق أهلا وأحباباً يعز علينا أن نفارقهم.

* رئيس المعهد العربي والديمقراطية ووزير سابق.

 

2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون