مسرح البيت في تونس ل"فتحي العكّاري":فعل مقاومة.
2023 ,25 حزيران
د . مريم عتيق الجلاصي :صوت العرب – تونس.
إنّ تحديد موضوع الندوة الفكريّة وحصر الإطار الجمالي للمسرح في تونس بالزمان من خلال  كلمة اليوم في شكل سؤال لا يدعونا فقط للبحث عن إجابة له بقدر التفكير في الإمتداد الزّمني لرمزيّة اليوم،وإلى مراجعة الظّروف التاريخيّة المحيطة والمسيّرة للمسرح التونسي المتشابكة منذ نشأته إلى اليوم، فالمسرح بصفة عامّة نشأ عن الظروف التاريخيّة وتأثّر بها واستلهم منها مواضيعه وأسّس على وفقها مساراته الجماليّة، وقد مرّ المسرح التونسي حسب محمّد المديوني بأربعة حقبات كبرى، أوّلها حقبة البدايات الّتي امتدّت من النشأة إلى سنة (1922)، ثمّ حقبة مساعي التّأثيل والّتي امتدّت إلى سنة (1962)، ثمّ حقبة التّأسيس وبدء المساءلة الّتي امتدّت إلى النصف الأوّل من سنوات السّبعين، وأخيرا الحقبة الرّابعة المتمثّلة في تشظي المؤسّسة وإلحاح السّؤال الّتي امتدّت إلى أيّامنا . تقسيم يستند أكثر على نشأة وتطوّر المؤسّسة المسرحيّة ويمكن حصر مساراته الجمالية في ثلاثة مسارات كبرى، كلّ مسار منها متناغم مع ظرفيّته التاريخيّة على حدّ تقديرنا.
تمثّلت الفترة الأولى في فترة المسرح العربي وهي تنحصر منذ نشأة المسرح بتونس سنة (1909) تقريبا إلى حدود إعلان "بيان الإحدى عشر" سنة (1966) لمجموعة من المسرحيين دعوا فيه إلى تغيير جوهر الخطاب المسرحي وربطه بالقضايا الرّاهنة للمجتمع، معلنة عن وجهتهم الفنيّة الجديدة في صحيفة « la presse » يوم 30 أوت  بعنوان "والآن، إن تحدّثنا عن المسرح"، وهو بيان حرّره ووقّعه أحدى عشرة مسرحي تونسي عايشوا المسرح الطلائعي بفرنسا، ستّة منهم كانوا في آفينيون، وإثنين يعملان مع روجي بلونشون، ومنهم من شاركوا في مهرجان نانسي .  فترة تزامنت مع عودة مخرجين تونسيين من الغرب بعد إتمام دراساتهم العليا أو تربّصاتهم التكوينيّة في المسرح لتدبّ حركة مسرحيّة جديدة بالبلاد لا زالت تؤثّر فيه إلى حدّ اليوم.
أحدثت الثورات التكنولوجيّة والرقميّة في العالم ومنذ مطلع هذا القرن تغيّرات جماليّة مبهرة وصلت إلى حد إختراع ممثّل افتراضي، إلّا أنّ المحدوديّة الماليّة والمحاصرة الرقابيّة السياسيّة للمسرح في تونس قبل 14 جانفي (2011) ولّدت جماليّة عمادتها الأساسيّة الممثّل، فالمسرح التونسي إلى اليوم لم يتجاوز ميثيولوجيا الممثّل فهو أساس الخطاب المرئي والمنطوق، وهذا متواصل إلى حدّ تاريخنا الرّاهن، فالمسرح في تونس ما بعد الثّورة لم ينتج شيئا جديدا لأنّ الظّروف الماديّة والقانونيّة لا تزال على ما هو عليه بل يبد أنّها تقهقرت أكثر في ظلّ سياسات متعاقبة غيّب في خطاباتها وأهدافها وخططها الغير واضحة الشأن الثقافي، الّذي شهد إختراق للفضاء العمومي وكذلك الخاص بخروجه عن الفضاء المسرحي الرّسمي مثل مسرح الشّارع أو مسرح الإدماج -الذي دخل إلى السجون أكثر مؤسّسات الدّولة رقابة-،أو مسرح البيت، وجميعها مظاهر مسرحيّة تعبّر عن اختراق الكبت السياسي الّذي عاشه المسرح في تونس في ظلّ رقابة القمع، وهي نوستالجي (حنين) إلى ماضي حركة مسرحيّة منتعشة بمظاهر أخرى بين فترة أواسط الستينات إلى أواسط الثمانينات.
المفارقات التاريخيّة الّتي نشأعنها مسرح البيت في تونس
مرّ المخرج والممثّل والجامعي المختص فتحي العكّاري منذ مطلع الثمانينات بتقديم عروض بفضاءات بديلة عن الفضاء المسرحي الرّسمي كمؤسّسة تفرض هيكلة وتوزيع فضاءها على أساس ثنائيّة الباث والمتلقّي، فمسرحيّة "الدّالية" الّتي أخرجها عز الدّين غنّونفي إطار المسرح العضوي رفقة فتحي العكّاري ممثّلا ومنية الورتانيممثّلة ورضا بوقديدةممثّل تمّ عرضها في مهرجان مسرح القاهرة التّجريبي سنة (1989)  في وكالة الغوري، وهو فضاء معماري قديم كان منزل لتاجر كبير يتكوّن من طابيقين يتوسّطه صحن به نافورة، منزل كبير ذا طابع شرقي. استغلّ صنّاع العرض هذا الفضاء بأكمله، كما عرضت نفس المسرحيّة في وسط مسبح دار سباستيان بالمركز الثقافي بالحمّامات. نفس الفضاء سنة (2016) ونفس المسبح يقام به عرض "نساء... في الحب والمقاومة" إخراج فتحي العكّاري وتمثيله إلى جانب الممثّلتين مريم الجلاصي وهيفاء بولكباشوالممثّل مصطفى الكضاعي. 
مسرحيّة "نساء... في الحب والمقاومة" عرضت مقاطع منها داخل مقاهي وبمكتبة الكتاب بالعاصمة وبمطعم في الحمامات، وقد تمّ قبول دعم توزيعها من قبل وزارة الثقافة بفضاءات بديلة وهي سابقة فرضها السّياق التّاريخي لظهور مسرح الشّارع في تونس ما بعد الثّورة. قدّم المخرج فتحي العكّاري أيضا مسرحيّة "قياسيّات" في فضاء العبدليّة سنة (2013) الّذي وزّع عرضها على كامل الفضاء من مدخل القصر إلى صحنه إلى بيوته، والمتفرّج يتنقّل مع الممثّلين أينما توجّهوا، نفس المسرحيّة تعرض بأبراج بمدينة صفاقس وكذلك بمغاور الهواريّة. ومن المفارقة أنّ نفس المسرحيّات تعرض أيضا في مسارح رسميّة ذات هندسة وهيكلة تقليديّة تقسم بين الجمهور والعرض، إلّا أنّ كل فضاء بين مسرح وشارع ومطعم ومنزل يفرض خصوصيّته الجماليّة على العرض. 
نفس الأسلوب عمل به المخرج فتحي العكّاري على مسرحيّة "مقاطع" إنتاج "مسرح البديل سنة (2023)وفي إطار مختبر الممثّل-الباحث والّتي عرضت إلى حد الآن في ثلاثة مسارح رسميّة: فضاء فرقة بلديّة تونس، وقاعة المبدعين الشبّان بمدينة الثقافة، وبقاعة الفن الرّابع التّابعة للمسرح الوطني، كما وزّعت داخل البيوت بتوزيع مختلف.
بدأ فتحي العكّاري تجربة مسرح البيت منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي وذلك بعد أن منعت لجنة الرّقابة مسرحيّة "خرّفني يعيشك" من العرض سنة (1981-1982) والّتي عمل عليها رفقة المخرج عز الدّين غنّونوالممثّلتين بشرى الأدغم وسعاد بن سليمان، حيث أقاموا عرض اللجنة بمسرح الحمراء مستغلّين توزيعها على كامل فضاء الحمراء الّذي حذفوا منه آنذاك مقاعد الجمهور واستثمروا الكواليس أيضا كحمّام تابع لسينوغرافيا العرض، ووزّع المتفرّج كسياج محيط بجهتين من الفضاء. بعد العرض كان ردّ اللجنة بالرّفض كما جاء على لسان فتحي العكّاري "يمنع منعا باتا الترخيص لهذا العمل لأنّه يرمي عرض الحائط كلّ القيم والأخلاق".
بعد هذه الواقعة عاد فتحي العكّاري إلى باريس حتى يكمل شهادة البحوث المعمّقة ويأخذ المسرحيّة الممنوعة من العرض في تونس كموضوع بحث علمي موضوعه "المسرح في البيت نموذجا للتكوين الميداني المختص" متخذا من الممثّلة بشرى لدغم نموذجا للتكوين الميداني حيث تكون هناك عضويّة في التكوين بين ما هو نظري من معرفة أساسيّة وما هو تطبيقي عملي. 
في هذا الموضوع يقول فتحي العكّاري أنّه يعمل تحت تأثير المثقّف العضوي للفيلسوف أنطونيو غرامشيAntonio GRAMSCIالّذي يرفض الإندماج بأجهزة الدّولة ويعتبر دور المثقّف عضوي مترابط مع البنية الإجتماعيّة وفي صراع مع الكتلة الإيديولوجيّة الّتي تحرّكها أجهزة الدّولة وذلك بهدف تكوين كتلة تاريخيّة، وهو الفكر المؤسّس للمسرح العضوي الّذي أسّسته مجموعة من الشبّان المسرحيّين في تونس من بينهم عز الدّين غنّون، وفتحي العكّاري، وعبد المجيد الجلّولي.
ومن المفارقات أنّ الممثّلة الّتي قامت بتجربة مسرح البيت مع  فتحي العكّاري هي إبنة الوزير الأوّل لتونس الباهي لدغم. وبدآ فعليّا بالتمارين على المسرحيّة تارة بمنزله بباريس وتارة بمنزلها، وكانت بينهما علاقة زمالة مهنيّة فنيّة وعلاقة مكوّن ومتكوّنة ومخرج وممثّلة علتها الكثير من حميميّة صداقة على مستوى الجانب الإنساني والنضالي على المستوى المدني والمواطنة.
بعد مشوار زمني من التمارين بالمنزل طلب فتحي العكّاري دعم من وزارة الثقافة التونسيّة على مشروع "خرّفني يعيشك" في إطار بحث ميداني يتبع دراساته المعمّقة بباريس، ومن المفارقات أنّ العرض الّذي قوبل بالرّفض من لجنة الرقابة التونسيّة توافق على دعمه المالي وزارة الثقافة التونسيّة في إطار بحث علمي ميداني.
قدّم فتحي العكّاري بمسرحيّة "خرّفني يعيشك" في مطلع الثمانينات من القرن الماضي خمسة عشرة عرضا داخل بيوت بفرنسا، وكان شرطه أن يقدّم له صاحب البيت شهادة مكتوبة يدلي بها بأفكاره حول ما عرض في بيته، كان قد استعملها كوثائق لدعم بعثه العلمي. كما قدّم بها في تونس عشرة عروض داخل البيوت، بين الملّاسين وسيدي بوسعيد والمرسى وأريانة... وقد تنوّعت المنازل بين بيوت كبيرة وشقق صغيرة لينطلق العرض فيها من الشارع أو من حديقة المنزل... وكان برفقته رضا بوقدّيدة كموضّب عام، فقد كانوا يحملون معهم كل مستلزمات العرض من إنارة وصوت.
عبر هذه التجربة كان فتحي العكّاري يظنّ أنّه الأوّل في العالم الّذي ابتدع تجربة المسرح بالبيت إلّا أنّه تفطّن إلى بعض التجارب الّتي سبقته في ذلك ومن بينهم أولى التجارب المسرحيّة التونسيّة حيث عمل مجموعة من الشبان التونسيّون على مسرحيّة "عطيل" لشكسبير ببيت أحدهم لكن لم ترى المسرحيّة النّور أمام جمهور بالمسارح الرسميّة ، وهي تجربة لا يمكن مقارنتها بمقوّمات مسرح البيت الّذي نتحدّث عنه من خلال الأنموذج الّذي بين أيدينا لا من الناحية التاريخيّة ودوافع التجربة ولا من الناحية الفكريّة والجماليّة،فتجربة الشبّان التونسيّون الأولى جاءت في إطار لم تظهر فيه الممارسة المسرحيّة التونسيّة كما أنّها كانت تقتصر على غرفة فقط من المنزلة وتقسمها إلى فضاء خاص بالمتفرّج وفضاء خاص باللّعب وهي مخيّلة النشأة الّتي كانت ترى المسرح عبارة عن علبة إيطاليّة، بينما تجربة مسرح البيت كما قام بها فتحي العكّاري والّتي جاءت بعد سبعة عقود تقريبا من التجربة الأولى نشأت كردّة فعل عن الرقابة السياسيّة للمسرح بتونس، وهي جماليّا لم تنقل العلبة الإيطاليّة إلى البيت إنّما يستغل ويوزّع عرضها على جميع أماكن البيت الخارجيّة والدّاخليّة، وحيث يتحرّك الممثّل يتحرّك معه المتفرّج مرتجلا المكان الّذي سيتوقّف فيه لمشاهدة ما يعرض له، ومن متفرّج إلى آخر تختلف زاوية النظر وبالتّالي تتعدّد الرّؤية إلى ما لا نهاية دون أدنى إحالة إلى الفضاء المسرحي كبناية هندسيّة مستقلّة.
مسرح البيت كتجربة قام بها فتحي العكّاري ولّده التفكير فيإستحداث مسالك توزيع بديلة غير رسميّة لتجنّب الرّقابة السياسيّة الرّافضة له، هذه الفضاءات البديلة بخصوصيّاتها فرضت جماليّة مغايرة تماما للمسرح كفضاء معماري رسمي. إنّ المقارنة بين التجربتين لا تجوز لأّنّ لكلّ منها ومرجعيّتها الفكريّة والجماليّة ودوافعها التاريخيّة، وهذا ما سيتبيّن لنا أكثر في العنصر الموالي.
مقارنة مفاهيميّة بين مسرح البيت ومسرح الغرفة
نجد لدى Patrice PAVISباتريس بافيس مفاهيم قريبة من مسرح البيت من بينها مفهوم مسرح الغرفة إلّا أنّه هناك فوارق جماليّة عميقة بينهما، فمسرح البيت تتكيّف جميع وسائل محتوى عرضه مع البيت الّذي يعرض فيه، محافظا على جميع خصائصه الهندسيّة ليقدّم البيت نفسه في مجمله كسينوغرافيا العرض، حيث يكون المنزل في مجمله وسيلة من الوسائل الفنيّة للعرض. بينما مسرح الغرفة يختار زاوية من غرفة بالبيت ليقيم فيها علبة إيطاليّة تفصل الفضاء بين مكان للجمهور ومكان للعرض له ديكور خاص به يكون بالضّرورة شيء خفيف جدّا مقابل الدّيكور الّذي تستوعبه علبة إيطاليّة في مسرح، أي هو عبارة عن نموذج مصغّر لمسرح العلبة الإيطاليّة. 
اختلاف جذري وعميق بين مسرح البيت ومسرح الغرفة إلّا أنّه هناك بعض العناصر الّتي يتشاركان فيها وهو أنّ كليهما لا يتحمّلان طاقة استيعاب لعدد كبير من الممثّلين وللجمهور على حد السّواء، فهما لا يتجاوزان ممثّلين أو ثلاثة على أقصى تقدير، وعشرون أوخمسة وعشرون فردا من الجمهور.
علاقة الممثّل بالمتفرّج في جماليّة مسرح البيت
طاقة الإستيعاب المحدودة لمسرح البيت والتّقارب المادّي بين جسد الممثّل وجسد المتفرّج يخلقان نوعا من الحميميّة الخاصّة جدّا بين الممثّلين والجمهور كالّتي ينشئها المسرح الحميمي الّذي نجده في مسارح الجيب مثلا، لكن تركيبة البعد الجمالي لهذه الحميميّة يختلف باختلاف الفكر المؤسّس لكل تجربة. فالمسرح الحميمي الّذي نشأ بين الحربين العالميّتين يطرح تقريبا مسائل وجوديّة تتمثّل في فك الإنسان للغزه الّذي يحيّره، وهو مسرح مؤلّف. في المقابل نجد مسرح الغرفة والّذي ظهر في مطلع القرن العشرين خرج عن موضوع عزلة الفرد إلى طرح مسائل مشتركة بين الأزواج في عقدة دراماتورجيّة بسيطة يصف STRINDBERG قواعدها بأنّها مشحونة بالعلامات، إلّا أنّها محدودة ومحذوفة الوسائل وتعابير الوجه ومشاهد الشجاعة ومشاهد النّجوم، الموضوع الاجتماعي الحميمي بين الزوجين هو الّذي يحدّد هذا النّوع من المسرح الّذي يحتّم وحدة الموضوع. 
يقترض مسرح البيت جميع خصائص مسرح الغرفة والمسرح الحميمي ولا يحدّ نفسه بها وكذلك يتجاوزها، لأنّ المبدأ المؤسّس له في النموذج الّذي ندرسه هو كيف يخلق فضاءات بديلة في المدينة تكون قادرة على خلق نوعيّة جديدة من الفرجة والعلاقة بين صنّاع العرض والمتفرّج كاسرا تلك الحدود الفاصلة بين ممثّل ومتفرّج وإن كانت وهميّة في لعبة الخيال.
 لا يهاب مسرح البيت التطرّق إلى مواضيع سياسيّة، ولا يهاب أيضا التماهي التّام مع الشخصيّة ولا يحصر تعبير الممثّل في أسلوب متباعد عمّا يفرضه عليه إحساسه الطّبيعي الّذي يصل إلى الحدّة في التعبير وسريعا ما يدمج معه المتفرّج الّذي يجد نفسه أمام حالة إنسانيّة استثنائيّة متناغمة مع حميميّتها الحسيّة وما يمكن أن ينتج عنها من تعبير استثنائي عن التعبير اليومي، ليندمج معها تابعا خطاها أينما اتجهت وساكنا في مكانه عندما تتموقع. 
يمكننا تشبيه هذه التجربة بصناعة السينما حيث يتنقّل الفريق التّقني أو يتموقع حسب ما يفرضه الإطار الّذي سيصوّره، حيث يغيّب الممثّل هذا الفريق ليلعب المشهد بكل تفاصيله الحسيّة وكأنّه بمفرده لا يوجد معه سوى الشخصيات الّتي تشاركه في اللّعبة، إلّا أنّ تواجد الفريق التقني في نفس مكان اللعب وظيفته مهنيّة، محدّدة من قبل وليست مرتجلة، لذلك تتغيّر نوعيّة العلاقة بين الممثّل والمتفرّج في مسرح البيت، فمن ناحية يرى الممثّل نفسه في عين المتفرّج الّذي هو موجود معه في نفس المكان وبإمكانه ان يعدّل من لعبه في نفس اللّحظة بمعطى التّعاطف الّذي ينشأ بينه وبين المتفرّج. وهذا المعطى التّقييمي لا يتوفّر له لا في حقل التّصوير ولا في المسرح حيث ينصب الجدار الرّابع فالجمهور هنا في الظلام يرانا يشاهدنا يحسّنا إلّا أننا أمام الظّلام نبني فيه ما تطرحه علينا الدراماتورجيا وما يطرحه علينا خيالنا الدّاخلي. 
نعرّج في هذه النقطة الخاصة بتقارب جسد الممثّل مع المتفرّج في مسرح البيت إلى حد التماس على مرجعيّة المسرح الطقسي لجرزي غروتوفسكيJerzy GRTOWSKIوالّتي يعتمد عليها فتحي العكّاري كثيرا في تكوين الممثّل، فالمعلّم الأوّل كان ينتقي متفرّج مسرحه مدمجا إيّاه في سينوغرافيا تقرّبه من الممثّل إلى حد التماس في حالة إنسانيّة مغرقة في طقسيّة حسيّة لا تعود علاماتها إلى الواقع.
يتساءل العكّاري عمّا إذا كان المتفرّج "متلصّص" بما أنّه يتبعه بتمعّن وهو مشدوها فيه طيلة العرض، لكن نحن نتساءل هنا من هو المتلصّص على الآخر؟ فالمتفرّج هو بطبيعته موجود في الفضاء ليتمتّع بمتابعة خرافة تروى أمامه وفقا لما يقترحه عليه صانع العرض، لكن في الوضعيّة الّتي يوجد بها في مسرح البيت يصبح المتفرّج نفسه موضوع فرجة بالنسبة للمتفرّجين الآخرين وإن كان بدرجة خلفيّة عن الممثّل، وهو أيضا كمتفرّج في موقع فرجة بالنسبة للممثّل الّذي يرى مدى تأثيره عليه، لذلك يرى باتريس بافيسوإن كان سياق حديثه عن مسرح الغرفة إلّا أنّه نجده ينطبق عن علاقة الممثّل بالمتفرّج ومسألة التّأثير والتأثّر ونوعيّة التواصل بينهما في الفضاء:
 "...مكان التواصل واعتراف متبادل بين الممثّل والمتفرّج عبر حساسيّة كبيرة للمسائل النفسيّة. داخل هذه "الأبواب المغلقة"، الممثّل يبد ظاهرا مباشرة إلى الجمهور الّذي لا يستطيع رفض مشاركته الحسيّة بالحركة الدراميّة والّذي يشعر شخصيّا بتحدّى من قبل الممثّلين (...) متموقع في الفضاء بأريحيّة، كما لو أنّه على أريكة طبيب نفسي..." 
إنّ الممثّل في هذا النوع المسرحي هو عارض ومشاهد ودليل للمتفرّج في آن وهو أيضا دراماتورج وهو أيضا المخرج والمؤلّف بما أنّ الظّرف يفرض عليه بعض الإرتجال في عبوره من وسط مجموعة المتفرّجين في فضاء غريب عن تمارينه اليوميّة بالتواءاته وثناياه وزواياه وكل خصوصيّاته الهندسيّة الّتي وضع فيها لمدّة ساعة بطريقة تقنيّة قبل العرض، فذاكرة جسده يجب أن تكون مؤهّلة للاستيعاب السّريع لخصوصيّة كل بيت أو منزل يعرض فيه، أي ممثّل له وعي عال بمفهوم العلاقة مع الفضاء، وجسده هو أولى الفضاءات الّتي يجب أن يكون على وعي تام بها، ومؤهّل للإرتجال حسب ما تفرضه الوضعيّة الّتي يتنقّل فيها إلى وضعيّة أخرى من مكان إلى آخر في الفضاء وكيف سيدل المتفرّج عن وجهته بطريقة غير مباشرة، كما عليه أن ينقذ المعنى المؤسّس لكل وضعيّة من وضعيّات الخرافة. فمسرح البيت هو مسرح ممثّل بامتياز وهو على حد تعبير فتحي العكّاري "مسرح ممثّل واع وعارف وليس فقط ممثّل ذا إحساس أو حدس، يجب أن يكون ممثّل ذا ذكاء معرفي ووعي لأنّه يفكّر في اللّحظة الّتي يعرض فيها في البنية الأساسيّة للعرض الّذي أتى بها، فهو بالمزامنة إلى البرنامج الّذي أتى به يفكّر في كيفيّة تنفيذه أثناء عرضه، وهو يعمل على تفاصيل مزامنة مع ردّة الفعل الحسيّة الّتي يراها على المتفرّج، حتّى يبلّغ العرض في أمثل حلّة دون الانزياح عن المعاني المؤسّسة له أو الخروج عن بنيته الاساسيّة". فخصوصيّة الفضاء تفرض خصوصيّة على مؤهّلات الممثّل.
بيت المتفرّج نقطة إستفهام بين الواقع والخيال
قبل بداية العرض داخل البيت يتفق المخرج مع صاحبه على الحدود التي يجب أن يقف عندها ولا يخترقها من غرف وأغراض (الحديقة، قاعة الجلوس، الشرفة، بيت الإستحمام، المرحاض، الخزانة، بعض الملابس أو الاكسسوارات...) ، ثمّ يوزّع العرض في الفضاء على الأماكن المرخّص بها له وكذلك نفس الشيء بالنسبة للأغراض مهما كان نوعها. 
 قبل العرض يقوم بالتمرّن مع الممثّلة التي برفقته على توزيع مشاهد العرض على الفضاء، إلّا أنّه يبقى هناك المجال مفتوح أمام الإرتجال وإن كانت البنية الأساسيّة للعرض ثابتة، إرتجال يفرضه التكيّف مع الفضاء، وهذا ما يفرض أيضا الكفاءة العالية الّتي يجب أن يكون عليها الممثّل حتّى يتكيّف مع أنواع وأصناف وخصوصيّة الفضاءات الّتي يجد نفسه فيها. وخصوصيّة الثقافات أيضا، فالأنموذج الّذي اتخذناه والّذي بدأ تجربته بمسرحيّة "خرّفني يعيشك" قدّم عروضا بين باريس وتونس، وفي أوساط اجتماعيّة مختلفة لذلك مسألة الرقابة الذاتيّة يمكنها أن تكون مطروحة، وهذه مسألة عامّة في المسرح بين الثقافات وليست خاصّة بمسرح البيت فقط، وهو ما خلق خصوصيّة للمسرح ببلادنا، وما يصرّح به من قبل مخرجين عاشوا في ظل الرقابة السياسيّة ومنها الإجتماعيّة في بلادنا إذ تقول المخرجة رجاء بن عمّار حول هذه النقطة وما ولّدته من خصوصيّة في الجماليّة الّتي يتأسّس عليها المسرح في تونس:
"الأهم أنّ الممثّل في غياب القوانين والظروف، أصبح المركز والمنتج للخطاب، وهو من يحمله ويبلّغه (...) فأصبحت لنا لغة أخرى. اعتمدنا اللهجة العاميّة التونسيّة وخاصّة اللغة الجسديّة نظرا لعجز اللغة المنطوقة أو لمحدوديّتها. عدنا إلى الجسد (...) لأنّه يفتح فضاءات... يكتب... ويفتح أبوابا أخرى للرّؤيا... نفذنا إلى الجسد وبدأنا مساءلة مهنتنا... حاولنا إعادة تعريف ضرورياتها بقدر ما أصبحت مقاربتنا تقنيّة بقدر ما أحالتنا إلى واقعنا... إلى أنفسنا... إلى محيطنا." 
لا ننسى أنّ فتحي العكّاري قد تتلمذ في مسار تكوينه على يدي أغيستو بوال Augusto BOALأيضا الّذي اعتبر المسارح الرسميّة في عصره لم يعد لها وظيفة جماهريّة ودعا إلى اكتساح الفضاءات العموميّة وإقحام المتفرّج في اللعبة المسرحيّة حتّى يحرّك وعيه التاريخي والإجتماعي ويكون مواطن فعّال لا متفرّج سلبي قابع في مكانه المحدّد له منذ البداية مستهلك فقط لما يعرض عليه. من هنا ينطلق المخرج فتحي العكّاري من سؤال فحواه "كيف أحوّل الفضاء المعيشي اليومي إلى فضاء عرض خيالي؟" فعندما يشاهد الإنسان في بيته شخصيّات خياليّة تتحرّك في حكاية هو بصدد إكتشافها في فضاءه اليومي الّذي تحوّل من فضاء روتيني لواقع يومي إلى فضاء فنّي، ربّما هو سيتساءل "ما الّذي يحدث هنا داخل مسكني؟ فهل هذا البيت الآن بيتي أم هو فضاء مفتوح للعبة الخيال؟". فمن خلال ما يقترحه أصحاب اللعبة من بنية دراماتورجيّة وخطاب العرض والمعنى المؤسّس له وكيفيّة اللعب، وتوزيعه على كامل غرف المنزل يصبح الممثّل قائدا للمتفرّج في بيته الّذي أصبحت خلال العرض جميع أشياءه أغراض مسرحيّة Objets théâtrale.
النقاش حول العرض عنصر أساسي لجماليّة مسرح البيت
ربّما ما نفتقده كثيرا في الحركة المسرحيّة ما بعد الثورة هي النقاشات الّتي تقام بعد العروض والّتي كانت كثيرة بل هي عادة في فترة السّبعينات، فالبعد السياسي لهذه التجربة يتمثّل في أنّ المسرح داخل بيت صاحبه رفقة ضيوفه حمل تقارب حميمي بين الأجساد العارضة والمتفرّجة،لينطلقوا بعد العرض مباشرة إلى نقاش يلتقي فيه المبدع مع المتفرّج على طاولة حوار حول الحدث الفني وخطابه ومعانيه بتفاصيله وأحاسيسه. هكذا هو المسرح في المدينة L’Agora ليس حدث فنّي ثمّ يمضي كلّ في سبيله بل ما يحمله بعد حدوثه من نقاشات وحوارات فكريّة وحسيّة بين المشاركين إن كانوا فاعلين أو متفرّجين، وهذا ما نفتقده حقيقة في تاريخنا الرّاهن حيث أصبحنا على الأغلب نفترق بعد العرض مباشرة، وهي خاصيّة سلبيّة ليس لها مكان في المسرح بالبيت، فالنقاش بعد العرض ركن أساسي من أركان هذه التجربة.
إنّ حميميّة التقارب النفسي والتعاطف بين الأطراف الفاعلة والمتفرّجة أثناء العرض يصعب عليها الفراق مباشرة بعد تحيّة العرض، إذ لا يغادر المتفرّج المكان دون تواصل مباشر بينه وبين صانعي العرض، فالنقاش بعد العرض هو عنصر أساسي في مسرح البيت تفرضه طبيعة أصل حميميّة الفضاء في حدّ ذاته، فالمتفرّج هو صاحب البيت وعائلته وضيوفه على الأغلب، له خصوصيّة ملكيّة فضاء العرض وله علاقة خاصّة بأفراد الجمهور الآخرين، اجتمعوا حول تجربة حسيّة إبداعيّة مختلفة، ليجدوا أنفسهم في حميميّة تواصل مع صنّاع العرض بداية من التمارين -وإن كانت تقنيّة-، الّتي لا يتمّ إخفاءها على أصحاب البيت، والحميميّة الّتي تنشأ بين الممثّلين والمتفرّجين أثناء العرض.كل هذه الخصائص تجعل من النقاش بعد العرض رغبة تنتاب الجميع وضرورة، فتطرح حوارات فكريّة وسّياسيّة واجتماعيّة وفنيّة حول العرض وما يمكن أن يلهمه من حوارات خارجه والّتي يتشاركون فيها تاريخيّا. 
إنّ الجانب الجمالي لهذه التجربة الغير منتشرة إن لم نقل غير معهودة خاصّة في بلادنا بالنسبة للمتفرّج أو حتى بالنسبة للمبدع نفسه الّذي إعتاد جسده على أن يكون منفصلا على جسد المتفرّج. وهو الفارق الّذي يخلقه مسرح البيت بالمقارنة مع نوعيّة المسارح الأخرى.ويقول فتحي العكّاري "هذه النوعيّة من النقاش يمكنها أن تظهر لنا إن كنّا في مدينة تفكّر أو مدينة ميتة لا تفكّر، وهو رهان إلى جانب الرّهان الجمالي، فالمسرح الّذي أنتهجه عضوي بين السّياسي والجمالي."  
يجد فتحي العكّاري أنّ الظروف الموضوعيّة لمسرحيّة "مقاطع" الّتي أخرجها والّتي أنتجها مسرح البديل سنة (2023) تخوّل لها أن تعرض أكثر في البيوت بما أنّ الخرافة محبوكة بين شخصيّتين حيث يتم إستدعاء الشخصيّة الّتي يلعبها من قبل الشخصيّة الّتي تلعبها الممثّلة نادية عبيد للإحتفال معها بمناسبة حصولها على جائزة نوبل للحب، لقاء تعبّر فيه الشخصيّتين عن رؤيتهما للحب من جميع أبعاده الفلسفيّة والإجتماعيّة والسياسيّة التاريخيّة، لتطرح أزمة الحب من عدّة جوانب. فالموضوع المطروح حميمي وكوني في آن، كما أنّ الفضاء المتخيّل هو منزل الشخصيّة رملة، وهذا ما يجعل من الفضاء الواقعي للبيت بمختلف أصنافه يتماشى مع العرض ويحتويه طبيعيّا.
من النّاحية السّياسيّة للفعل الثقافي، هذا العرض لم يدعم على الإنتاج وهي الجهة والإستراتيجية الأكثر انتهاجا لدوام الفعل المسرحي في تونس بما أنّه ليس مسرح شبّاك تذاكر يواكبه جمهور عريض، في المقابل تمّ دعمها على التّوزيع. يرى صانع العرض أنّ التوزيع الرسمي يسير بطبيعته وبحركيّة بطيئة لا تتماشى مع طموحات فنّان يرى المسرح احتفالا مع الجمهور، وبالنسبة له بل من الطّبيعي أن يكون فعل يومي، فكان مسرح البيت بالنسبة له متنفّس كي لا يصاب الفنّان بشلل الرّكود، فالمردوديّة الماليّة لهذا النوع من المسرح بالكاد تغطي مصاريف التنقّل والمستلزمات اليوميّة للسّاهرين عليه وهي بسيطة جدّا، لكن المردوديّة المعنويّة والتاريخيّة السياسيّة الّتي يلمسونها وينشدونها من خلال هذه التجربة تأخذهم إلى رؤية تونس بديلة للسياسة الثقافيّة الّتي يمضي فيها عمر الفنان جالسا أكثر مما يمضيه ناشطا في حوضه الطّبيعي الّذي يجمعه بالمتفرّج. فهذه النوعيّة من المسرح لا يمكن أن يكون من ورائها منفعيّة ماليّة للمهنيين السّاهرين عليها بقدر ما فيها بحث عن جماليّة مدينة بديلة أو ربّما بحث من خلال الفعل الفني عن "جمهوريّة الفن" ذلك الحلم الفيكتوري الجميل. 
 
المراجع
محمّد المديوني، مغامرة الفعل المسرحي في تونس، الكتاب الأوّل، دار سحر للنّشر، تونس، 2000.
 
Mahmoud MEJRI, La nouvelle thématique dans le théâtre tunisien contemporain : mutation socio-culturelles et activité théâtrale, thèse pour le doctorat de 3ème cycle sous la direction de Michel Barbot, Université du Paris Sorbonne Paris IV, Novembre 1985. 
 
Patrice PAVIS, Dictionnaire du théâtre, édit Armand Colin, Paris 2004.
 
Raja BEN AMMAR, « la révolution et la joie du corps », colloque internationale « Passions, Pouvoirs, Institutions », Organiser par IFT du 12 au 13 mars 2011, Hôtel Sheraton Tunis.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون