"عشاء الكلاب"... عشاء يخفي عشاءات.
2023 ,13 حزيران
 * د. فوزية ضيف الله:صوت العرب – تونس.
قد يبدو العنوان مغريا الى حد كبير، لكن المتن قد يغريك الى الحد الذي يجعلك متورطا فيه. يسحبك من وقع اللفظ الى وقع المعنى. "عشاء الكلاب" عرض مسرحي جديد قدمه المخرج يوسف مارس، بالتعاون مع وجدي حداد (مساعد مخرج) عن نص جماعي، اختار له من الممثلين نور الدين الهمامي و منى شنوفي. 
1- مقاربة فيلولوجية، "المنهج الكلبي" من الفلسفة الى المسرح:
 ثمة متون فلسفية عديدة اشتغلت على تيمة "الكلب" و"الكلاب".  وقد كان لأوليس (Ulysse) علاقة خاصة بالكلب   أرغوس (Argos) في إلياذة هوميروس (Homère). 
 إن "الكلبية" (ِCynisme) هي موقف من الحياة، نشأ ضمن مدرسة فلسفية في اليونان القديمة، أسّسها انتستينين (Antisthène) في القرن الرابع قبل الميلاد. ويعتبر ديوجين (Diogène de Sinope)  من أتباعه الأكثر تحمّسا. يعيش الكلبيون فلسفة التشاؤم والارتياب وخيبة الأمل تجاه السلطة والمجتمع، يكتفون بالعيش في الأحواض، محتقرين كل الرغبات والمتع، كما وصفهم ديوجين اللايرسي (Diogène Laёrce) في كتابه "حياة ومذاهب الفلاسفة اللامعين"، سيشكل الحيوان "نموذجًا إيجابيًا للفضيلة بالنسبة للإنسان.
كان ديوجين (Diogène de Sinope) يُلقّب  بالكلب (ِChien). وفي الاغريقية (κύων). وتجدر الاشارة أن "الكلبية" نفسها مشتقة من الفعل الاغريقي القديم الدال على "كلب" (κύων / kuôn). ويعتبر هيراكليس الرابع (Héraclès) نموذجا  للكلبيين، لأنه لا يسمح لنفسه بأن يتأثر بأي شخص، ويواصل سخريته من الجميع دون استثناء. 
أما أفلاطون، فيشير إلى مثال" الكلب" في الكتاب الثاني من الجمهورية (La Republique) ، حيث يتطرق الى التماثل بين "الطبيعي" (Le naturel) والكلب والحارس (375 أ -376 ج). فالكلب مثل الفيلسوف، يمكنه أن يميّز الصديق عن العدوّ.  الكلب هو حارس الصداقة، كما يكون الفيلسوف حارسا للمدينة، وكلاهما على علاقة بالحقيقة والعدل داخل الجمهورية. ولعل هذه المقاربة هي التي أدت ببول نيزان (Paul Nizan) الى عنوان كتابه "كلاب الحراسة" (Les chiens de garde)، المنشور سنة 1932، والذي يعتبر مقالا موجّها ضدّ بعض أشهر الفلاسفة الفرنسيين في ذلك الوقت، لا سيمّا برغسون، إيميل بونرو، برنشفيك، لالاند ومارسال ماريتان. 
لسائل أن يسأل: أيه علاقة بكل ما قيل بعنوان مسرحية "عشاء الكلاب"؟ ان الملفت في العنوان هو قسمه الثاني "الكلاب" ولكن الخطر المحدق كامن في العبارة الأولى "العشاء". فيصبح السؤال لا عن "الكلاب" بل عن "العشاء".  فكيف كان عشاء الكلاب؟ أو ماذا  أو من كان عشاء للكلاب؟ 
2-ماذا تقول الخرافة؟
عشاء الكلاب شهادات واعترافات"، هو عنوان مدو يثير جدلا واسعا في أوساط المثقفين، والسياسيين في فرنسا. ينتحر صاحب الكتاب في فرنسا يوم نشر الكتاب. يصل الكتاب الى الفتاة التونسية المقيمة في فرنسا "نورة" عنوة، وهي صحفية اغرمت حديثا بالصحافة الاستقصائية. عندما تصفحت الكتاب، اثارتها فيه أحداث وأسرار كثيرة، لاحالتها على حقائق وقعت فعلا أو لها علاقة بما يحدث، فتزعزع كيانها، وترغب في ملاحقة الحقيقة واستقصاء الحكاية. 
يسرد الكتاب قصّة جريمة بالقصر ضحاياها طبّاخان هما والدها "نجيب" و صديقه "سعيد". عند عودتها إلى تونس، تلتقي "سعيد"في مطعمه "البهجة الدائمة "بحثا عن حقيقة يمكن أن تكذب ما جاء في الكتاب، فتنكشف أمامها حقائق أكثر فظاعة. والدها كان "عشاء للكلاب" في ليلة حاسمة، أدار مراسمها الطباخ "سعيد"، فكان أمام لحم أبيها، في المطبخ، يصنّف أشهى الأطباق، لكن ليلتها، لم يأت أحد من القصر ليأكل. أمروه بإخراج العشاء نحو الحديقة، أمام الكلاب التي انقضت على العشاء وعليه في وحشية مربكة. لم يكن "سعيد" سعيدا، بل متكدّرا في غبنه، وهو الذي أراد أن يصبح "ليلة غياب زميله الطباخ"، طباخ القصر الأوّل، ولكنه، يتفاجئ بأنه قد طبخ لحمه وقدمه للكلاب عشاء. يعبث بالمطبخ وبما فيه، ثم يقلى في الزيت المغلي، في وحشية قاتلة، ويطرد من القصر بعد مدة علاجه ويطلب منه أن يصمت بمقابل، حتى يحافظ على حياته. يعيش حياة الكلاب في مطعم "البهجة السعيدة"، ينام حيث يعمل، وحيدا، متشردا، يفقد الثقة في كل شيء، ويصبح التشاؤم مذهبا لحياته الجديدة. تحاول نورة،  الصحفية الاستقصاءية،  مواصلة البحث، بعد هزات وجدالات  مع سعيد، وتنجح  في جعله  يهذي وجعا،  ويعبر كمدا، ثم يضحك، ويسخر،  ويبكي..بينما  يكون الغاز  قد ملأ صدره. يزحف و يلفظ الكلمات الأخيرة  مكمودا، مذعورا..بينما  ترجوه  نورا  أن تواصل  البحث  للآخر،  تسأله  عن مذاق  لحم أبيها،  وعن وعن..الى أن  يموت  مختنقا  بالغاز.
3-مشهد البداية:  ومن" الدعاء  على "ما يدعوك للضحك...
تنفتح المسرحية على مشهد "الدعاء على هم"، يخاطبهم الطباخ سعيد مستعملا ضمير المخاطب الجمع "أنتم". وسط سلسلة من الدعاء بالشر والموت، معتمدا لهجة شعبية جنوبية، يربك الممثل نور الدين الهمامي الفرجة، ويكون المتفرج منشدا منذ الوهلة الأولى، شاعرا بهول بما يحدث، ولكنه يضحك بكل ما أوتي من قوة. ضحك ساخر، ناقم، هدير من الموج الغاضب على الركح وسط اضاءة مفتعلة، على ركح بسيط، لا يحتوي الا ما ندر، ولكنه متراكم بالوجع الضاحك، والسخط الساخر، والرقص الغاضب.
قد لا يمكن فصل المشاهد عن بعضها، ذلك أن المسرحية  قدمت  دون انقطاع  او توقف،  كأنها ضرب من  الجمر الملتهب  في وجه الرياح،  ويخشى  قدوم  المطر  فينطفىء...قاد نور الدين  الهمامي  حربا لغوية  ساخطة، فيها مهاجم مختلفة، يكسوها  معجم  امازيغي  جارف، وصوت ناري  حارق..في جوف الليل  الذي لم ينجلي.  
 4-سينوغرافيا  استقصائية :
ركح خفيف، يعمه  الفراغ، يزدحم  بالمعنى والاسئلة..معطف أحمر  دال على الدسيسة  والجريمة والخطر.  علامات تحديد  الجريمة  تشتعل  بوضوح  وسط الظلمة،  لكل شاهد من الشواهد رقم خاص. حقيبة  تجرها  خيبة نورة، وسط الخيبة  وضعت كل ما لديها  تاريخ والدها، الكتاب الذي يحتوي  الشهادات، علامات تحديد القضية، ماضي  متكدر من الألم  والحظ العاثر، تاريخ الجرائم  التي  عاشتها  تونس  والعالم،  وهي تتنقل  من دولة لأخرى..
يكفي أن ترتدي  المعطف أو رداء  الاستحمام  حتى تتحول إلى شخصية أخرى،  بين الارتداء  والنزع، تغيب شخصية وتحضر أخرى،  تحاور نفسها  خارج نفسها  في شمل المعطف  الذ ي يرمى  فتحل  الخيبة  والدهشة. 
اما سعيد  فهو الذي  يسعى بين شخصيتين  هو الآخر،  سعيد في الماضي، وسعيد بعد الهزة  والصحوة. يخشى سعيد من صحوته  كلما خلع عنه  رداءه،  وكلما دخل للاستحمام  رأى  آثار التعذيب  والحرق  على جسده. لم يتمكن  من نسيان الندوب  التي  اخترقت  لحمه،  وكلما  مرر السكين  في قطع اللحم والخضر  في المطبخ،  تذكر انه  هو من قطع لحم الطباخ  في القصر الرئاسي  وصنف  منه "عشاء الكلاب"
كلاهما  في ثياب السواد، ربما سوف يرقصون على انغام  فيفالدي  "الفصول الاربعة" لكنه رقص بلا اسم، لانه  بلا فهم. فلا هو فهم  من تكون؟ ولا هي عرفت  من يكون؟ وفي غياب الصفة لا يمكن تحديد الشعور.  يلتقيان في غربة الليل ويلتقيان  في غربة الكتاب وغرابة الحكاية  وغريبة  النهاية.
5-عرض غير مدعوم، راهن على الابداع وعلى الفعل المسرحي: 
هذه المسرحية هي إنتاج ذاتي وغير مدعومة. انطلقت الفكرة من جدال نشأ بين المخرج يوسف مارس ومساعده والممثل نور الدين. مثلما يصرح المخرج: "الفكرة بدأت بجدال بيني وبين نور الدين و وجدي وطافت بنا جميعا واغرقتناها". فكان العمل مغامرة جماعية، بامكانيات ذاتية، خلق خلالها النص جسدا، ثم لفظا مكتوبا..وكان المرور من الارتجال الى تطويعات النص مرورا متعاونا بين يوسف مارس ووجدي حداد.
لم تكن الغاية من العمل الانطلاق من مفهوم الإحتراف كبطاقة تعطى فقط شكلا، بل كانت فكرتهم الأساسية متمحورة حول الابداع الذي يعطي ويضيف للعمل. 
الاحتراف الحقيقي هو مسار وحياة:
يقول المخرج يوسف مارس: " لقد كان اختيار الممثلين على مبدا الرغبة في خلق مسرح لكل الناس. ومع غياب الدعم، يكون الضامن الوحيد للعرض هو الابداع". 
6-ايحاءات سياسية..(ملحمة بن قردان)
للمسرحية خيوط  تشدها  الى واقع ما حدث  وما يحدث  في تونس، وما حدث وما يمكن أن  يحدث  في كل قصر  او مطبخ  أو غرفة  نوم. 
ان علامات الركح،  بما فيها من ثياب  تخص الاستحمام  والنوم والمطبخ،  تدل كلها على امكنة تدبر فيها المكيدة.  وتغير الفصول  تماشيا  مع موسيقى "الفصول الأربعة" لفيفالدي،  دليل على استمرارية  الجريمة  وامكانية  تواجدها  في كل فصل ومهما تغير المكان، كأنها  حلقة مفرغة،  تدور تدور لتعود في كل مرة مثقلة بما هو أفظع. 
 ان للمسرحية ارهاصاتها  السياسية،  ما عاشته تونس من  "عشاءات "، على مدى التاريخ، حولت  أحلامها  الى فتات،  وجعلت من لحم شهدائها، وشعبها،  طعما  يستساغ  مضغه  بلا رحمة، ومازال  اللحم  يتوجع  على الركح، ويطرد عرقا  بلا مقابل  في  سبيل  أن يتغير  مفهوم الفعل المسرحي، وأن يكون  الدعم  الحقيقي  للابداع  لا دعما للانتاج. 
لا تنتهي  مهمة التأويل  لهذا العرض  المسرحي،  ويمكن أن يعطي  دلالات تأويلية  أخرى خلال عرضه الأول والمقبل  بمناسبة ملمحة بن قردان،  في منبت  المخرج، على أرض  تعرف  معنى "العشاءات " جميعا  في علاقتها  بالكلاب  التي طبخت  وبالكلاب  التي أكلت..والفرق  شاسع ومشاكس  بين  المجموعتين،  فالفصيلة  وحدها  لا تكفينا  لتحديد  من هم الكلاب؟؟ أ  وليس  "الكلب" كلبا وليس  الإنسان  انسانا  الا  في اللغة؟
فكيف تأذن  اللغة  للكلمة أن تدل  على ما لا تحيل عليه؟؟
 *ناقدة واكاديمية تونسية.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون