**المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.
2022 ,05 كانون الأول
*د.خالد شوكات :صوت العرب – تونس.
لعلّ أحد أهم أسباب انتكاسة مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، هو فشل النخب المؤتمنة على الديمقراطية في إدارة ملفّي المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، وكلاهما ركن ركين في البناء الانتقالي، باعتبارهما شرطان للحكم على المسار في فشله ونجاحه، إذ لا يجب أن ننسى أن ما يميّز الانتقال الديمقراطي عن غيره من أساليب التغيير السياسي، هو ضرورة التزام الأطراف المساهمة في القرار باجراء العدالة الانتقالية على نحو يفضي في النهاية إلى إرساء المصالحة الوطنية، وبما يضمن طي صفحة الماضي بطريقة رشيدة وبناء والتفرّغ لمواجهة التحديات المستقبلية في سياق من التوافق والوحدة الوطنيين.
إن الانتقال الديمقراطي هو آلية حضارية جديدة بالمعنى التاريخي لعملية انتقال السلطة، عقب الانتفاضات والثورات الشعبية، يختلف في وسائله وأهدافه عن طرق التغيير السياسي التقليدية من قبيل الثورات الايديولوجية أو الانقلابات العسكرية والأمنية، ففي هذه الأساليب الأخيرة يحاول الجديد إقصاء القديم على نحو راديكالي وشامل، ليحلَ محلّه بالتمام والكمال، بينما تقوم فلسفة الانتقال الديمقراطي على توافق الجديد مع القديم بعد اجراء العدالة الانتقالية وعلى قاعدة المصالحة الوطنية..هكذا تفاهمت القوى الديمقراطية في تشيلي مثلا مع نظام الديكتاتور بيونيشيه الذي منح عضوية مجلس الشيوخ مدى الحياة، وهكذا شغل ديكليرك منصب نائب الرئيس آلى جانب الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا بعد تفكيك النظام العنصري في جنوب افريقيا، وهكذا ايضا سمح لجميع الاحزاب الشيوعية او الاشتراكية الحاكمة سابقا بالمشاركة في بناء الحكم الديمقراطي الجديد بعد انهيار المنظومة الشرقية السوفيتية.
ولئن تبنّت تونس منذ الوهلة الاولى بعد سقوط نظام الرئيس بن علي مساراً للانتقال الديمقراطي، فإن موضوعي المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لم يكونا سالكين، وقد عرفا طيلة العشرية العديد من التحديات والمطبات والتعثرات، فعلى صعيد المصالحة الوطنية ظهرت "نزعة اقصائية" واضحة وقوية في المشهد السياسي، حيث جرى حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم السابق سريعا، ولم تسمح له السلطات الانتقالية لأسباب ما تزال غامضة من اعادة بناء نفسه كما جرى في عديد الدول التي شهدت مسارات مشابهة، تماما كما جرى سجن وملاحقة عديد من قيادات النظام السابق وبما سبّب مرارة وردود افعال سلبية لدى الكثير من أبناء العائلة الدستورية، أما على صعيد العدالة الانتقالية فقد كانت تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة متعثّرة لم تكشف الحقيقة ولم تجبر الضرر ولم تساعد على المصالحة.
ولا شك ان عديد العوامل الداخلية والخارجية قد لعبت دورا سلبيا في عدم تحقق معالجة ناجحة للملفين، وقفت وراءها أطراف خططت منذ البداية لإفشال مسار الانتقال الديمقراطي، ولكن هل يتوقف هذا الامر على هذه العوامل، أم ان النخب تتحمل جزء من المسؤولية وعليها القيام بالنقد والتقييم والمراجعة، والنظر في امكانية استئناف العمل على هذين المسارين، من باب السعي الى استئناف المسار العام برمته؟
*كاتب ووزير سابق من تونس.
**الورقة التمهيدية للقاء التاسع من "لقاءات المصير الديمقراطي"..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون