2022 ,13 تشرين الأول
*د.خالد شوكات: صوت العرب – تونس.
كنت قد ذكرت في تدوينة سابقة، شيئا عن لقاء جمعني بالبروفسور ضياء الجميلي، وهو أحد أهم علماء الذكاء الصناعي في العالم، ولذلك فقد كرّمته الملكية البريطانية بلقب "الفارس النبيل"، وهو لقب أعلى مقاما من لقب "السير" المعروف، وعادة ما يمنح لقب الفارس النبيل لمواطني المملكة المتحدة ممن قدموا خدمات جليلة، خصوصا في مجال العلوم..ومعروف عن بريطانيا انها البلد الذي شهد أول ثورة صناعية في التاريخ قبل اربعة قرون، وتلتها بعد ذلك ثلاث ثورات شهدها نفس البلد، الذي ما يزال حريصا على الريادة العلمية الى اليوم، ومن هنا سعي سلطاته الدائم الى استقطاب العلماء من كل بقاع الارض.. ويعتقد البريطانيون ان قدرتهم قائمة في احتضان الثورة العلمية الخامسة، اي ثورة الذكاء الصناعي، الذي يشهد تطويره تنافسا محموما بين الدول الاكثر تقدما، ويقال انه سيغير تاريخ البشرية.
وكما تلاحظون، ففي وقت يفترض بي ان احدثكم عن البنزين المفقود والسكر والزيت والقهوة والسميد، فها أنا أحاول اثارة انتباهكم لاهتمامات العالم المستقبلية وانشغال الامم بورشات "الروبوتيك " و"السوفتوير " و"الانتلجنس ارتيفيسيال"..وهذا هو العلو الشاهق الحقيقي الذي يمكن لبلدنا ان يكون حاضنته الافريقية الاولى على الاقل، فأهم صادراتنا اليوم هم مهندسونا للاسف الشديد، وخصوصا مهندسي البرمجيات من بينهم، وهم المادة الخام لمهندسي الذكاء الاصطناعي.
ما لفت انتباهي في لقائي بالبروفسور ضياء الجميلي، وهو من اصول عراقية، شدة اعتزازه باسهام الحضارة العربية الاسلامية في الثورات الصناعية عامة، والثورة الصناعية الاخيرة تحديدا.. يقول البرفسور الجميلي ان كل الثورات العلمية الحديثة بنيت على اختراعين عربيين خالصين.. الصفر والخوارزميات.. ودون هذين الاختراعين ما كان للبشرية ان تدرك ما ادركته.. ولهذا يطلق هذا العالم على هذين الاختراعين عبارة "الثورة العلمية او الصناعية المجهولة".. لان العرب يتجاهلها ولا يريد الاعتراف بفضل العرب عليه فيها..
ومن الطرائف التي حدثنا بها البرفسور الجميلي في هذا السياق، محاضرة ألقاها مؤخرا في نيويورك عن هذه الثورة الصناعية المجهولة، وعن الصفر والخوارزميات (اللوغريتمات)، فاذا بأحد الحضور، وهو استاذ جامعي من اصل جزائري، يتدخل محاولا تسفيه المحاضر بنكران نسبة الخوارزمي الى العرب، قائلا ان الرجل كان فارسيا.. والخوارزمي كما هو معروف من مواليد بغداد، فكانت اجابة المحاضر في منتهى الذكاء..قال للمتدخل هل تعتبر نفسك جزائريا أم أمريكيا؟.. فقال الرجل جازما انا أمريكي بكل فخر.. فأجابه البرفسور الجميلي "اذاً فالخوارزمي في هذه الحالة عربي ايضا وبكل فخر".. وكذلك كان حال مئات العلماء ممن احتضنتهم مدن الحضارة العربية الاسلامية، في بغداد ودمشق والقيروان وقرطبة وغيرها من الحواضر العربية الزاهرة، وفيها تفجّرت مواهبهم واعلنت اختراعاتهم..
ولأنني رجل شديد الفخر بأصوله العربية الاسلامية، وباسهامات اجداده في تطوير العلم والمعرفة والحضارة، تماما كالبرفسور الجميلي، فانني اقول ان اولى خطوات التقدم هو تنشئة أجيال معتزّة بذاتها الحضارية، لا مسخ لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك.
غفر الله لنا ولكل محتقر لذاته حكمنا وساهم في افساد ذواتنا وزرع الشك في قدراتنا، فاحتقار الذات كما يقول الدكتور علي شريعتي هو أخطر الأمراض التي فتكت بجسد الأمة وروحها.
*كاتب عربي ووزير سابق من تونس.