المسرح.... برلمان الشعب.
2024 ,17 كانون الثاني
الفنان ايمن زيدان
*ايمن زيدان:صوت العرب – بغداد.
شكل المسرح مع تقادم تجربته الزمنيه واحدا من اهم اشكال التداول المعرفي الانساني ضمن صيغ فرجوية اثارت الكثير من حالات الدهشة والاثاره وتحول في كثير من الاحيان الى برلمان شعبي يناقش هموم الناس واوجاعهم ويرسم عبر عوالمه المفترضة احلامهم وتطلعاتهم .
كانت وسائل المسرح وعناصره ( نص - ممثلون -ديكور -ازياء -الوان -اضاءه ... الخ ) تسعى غالبا نحوالتكامل لتحقق غاياته النبيلة في رسم حياة انسانيه اكثر عدالة. 
ومر المسرح كما حال الفرسان الشرفاء بكثير من التحديات التي انهكته حينا وبثت الالق فيه احيانا ولكنها لم تستطع ان تقتله ...بدأ فيه الاغريق طقسا فرجويا مدهشا ومظهرا فذا لديمقراطية اثينا الرائعه ...ولكن سرعان مابدأت محاولات استقطابه والسير به الى فضاءات المصالح العليا ...جره عنف روما الى الدم  والكنيسة الى استخدامات مغايرة لكنهه وجوهره ...تمرد على كنيسة القرون الوسطى وطاردته محاكم التفتيش فافترش الساحات والازقه وحمل تطلعات الناس واحلامها ...دخل البلاط شامخا ومن ثم بقي وفيا لرغبته في صناعة حياة افضل ...ومع تحديات العصور الحديثه  كان بطل الفكر الانساني الجديد  فنورا ابسن حين صفقت الباب وراءها اهتزت اركان المجتمع الاوربي ..ومع ابوخليل القباني اشهرت الرجعية الدينية ابشع اسلحتها فحرقت المسرح ونفت رجله العظيم  ...ومع بريشت حمل  المسرح طموح تغيير العالم متجاوزا مهمة تفسيره ...وتابع المسرح مشواره الصعب ولم تهزمه كل وسائل الاتصال الجديده  بل ظل ينبض بالحياة لانه احتفظ وحيدا بثالوثه الخاص ...لقاءه المباشر والحي مع الناس ...شرطيته وقوانين فرجته الخاصه التي تكسب ايماءته دلالات مفتوحه ولانهائيه ...وفي حضرته فقط يكون المتفرج شاهدا على كل لحظات صناعة العرض وخلقه...... 
ولانه فن نبيل يسعى لاعادة رسم الحياة فقد كانت علاقته بالسلطة عبر تاريخه شائكة وهذه العلاقة الشائكة تمظهرت بتجليات مختلفه ووصلت حدود الصراع بين مسرحين اساسيين: مسرح اصر على التعارض مع القائم ومسرح تماهى مع الخطاب السائد ..وبالضرورة تمايزت الوسائل والصيغ النصيه والشكلية المستخدمه في التعبير عن المحتوى الايديولوجي لكل منهما .
على الرغم من كل ما اشرنا اليه ظل المسرح لسنوات مديده الشكل الفرجوي الاكثر ادهاشا والاكثر سحرا وتأثيرا . ولم تكن فقط رحلة خطابه النصي حارة وقلقه بل خطابه الجمالي والبصري ايضا .. فقد سعى بشده الى مسايرة التطورات التقنيه ومواكبة التغيرات التكنولوجيه الهائله التي افرزها عصر العلوم الجديده .
لقد ظل المسرح امينا للاقناع والادهاش وكان سباقا في الاحساس بالتحديات الآتيه لامحاله . فاعاد صياغة الاحداث الجلل واستعار من وسائل وطرائق المعرفة الجديده كل المفردات التي تحل مشكلات خلق عالم سحري وآخاذ يعبر عن تطور العصر وروح العصر .
بقي المسرح متباهيا بتفرد عالمه وشموخ هالته الى ان اطلت السينما يصورها الشيطانيه لتثير قلق هذا المتباهي وتقض مضجعه . 
استعان المسرح بعد ظهور السينما بكل وسائل دفاعه عن نفسه . لم يكن الصراع في ذاك الحين متكافئا ...فاستنفر رجالات المسرح بحثا عن مصادر توازن للصراع الذي اصبح امرا واقعا لامحاله ..بعضهم استعار الكثير من التقنيات الوافده والبعض الآخر جنح نحو الاغراق في البساطة والتبسيط .. لكن المخاوف بقيت قائمه خوفا من انحسار الطرف الاهم في المعادلة الفنيه ...الجمهور.
استمرت هذه العلاقة القلقة الخفية وحدث مايشبه التحالف الآني لمواجهة الوافد الجديد ... التلفزيون ... ثم توسعت دوائر المراهنات على كسب المتفرج بعد ان تطورت وسائل الاتصال البصريه والسمعيه تطورا مذهلا حول العالم الى قرية صغيرة  ووسع خيارات المتفرج الذي كان في يوم من الايام يرى في المسرح فرجة سحرية آخاذه ..
جملة الظروف التي وجد المسرح نفسه فيها حرضت رجالاته على التمسك بعناصر تفرده الخاصة به ..به فقط .
اذن لاخوف على المسرح كوسيلة اتصال من ان تهزمه كل الانجازات والاختراعات البشريه  بل الخوف الحقيقي عليه من مؤسساته ومن العاملين فيه .. انا من اولئك الذين لايخفون قلقهم الشديد على المسرح لأنه وبحكم تكوينه يحمل نقطة ضعفه .. روعته انه فن جماعي .. ومصدر القلق المشروع عليه انه فن جماعي . 
ان حاجة المسرح للمؤسسة هي التي تقلقنا عليه...فقد ارتبط طوال تاريخه بمفهوم المؤسسه التي كانت حاضنة له وجسر عبوره الرئيس للناس  ( اخذ النبيل في مرحلة من المراحل دور المؤسسه الذي نتحدث عنه ) .
اذن اولى خطوات التفكير في تبديد مخاوفنا على المسرح هي في تصويب المؤسسة المنتجة له ووضع اساليب وآليات عمل توفر مناخا حقيقيا لهذا الفن الانساني .
   *الفنان ايمن زيدان رئيس لجنة تحكيم مهرجان المسرح العربي 14-بغداد.                                                                                
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون