*موت المؤلف.
2024 ,16 كانون الثاني
أ.د. سامح مهران - مصر.
  د. سامح مهران :صوت العرب- بغداد.
في البداية لابد أن نسأل أنفسنا: من هو ذلك المؤلف الذي مات؟ وعن أي نوع من المجتمعات كان ينتمي؟ بالطبع تبنى ميشيل فوكوه فكرة موت المؤلف، أي ذلك المؤلف الذي يضطلع بأحد وظائف السلطة في إنتاج المعنى المراد تكريسه، فالمؤلف بهذا المعنى ليس شخصاً مزوداً بحرية الارادة، يبحث عن غاياته، لكنه ذلك الشخص الذي يسمح للخطاب السائد بأن يحقق أغراضه من خلاله (خلال المؤلف)، فالمؤلف هو بمثابة أرض عبور للخطاب السائد، كي يحقق أغراض ذلك الخطاب، ولذلك يبدو المؤلف كإنسان جمعي للبشر أو المجتمع المحددين، فالمجتمعات تحاول دائماً فرض تجسيد هوية بعينها، وتعمد إلى التنكيل بأشكال الانحراف عنها 0 
وهنا نشير إلى استخدام الحوار في كل من التراجيديا اليونانية، والكوميديا الرومانية، ومسرح العصور الوسطى وصولاً غلى الدراما الحديثة كشكل للخطاب، فقد كان للأفكار والفلسفات والأيدولوجيا تأثيرها في الأشكال اللغوية، وطرق التعبير، ووسائل البرهنة، وكذلك في العمليات التوصيلية والتفسيرية، وهو ما أسماه أرسطو " حكم الدراما " فالدراما سواء في صورة المسرح، أو في غيره من الفنون الإستعراضية، توجد مغروسة في الثقافة الاجتماعية ولكنها توجد بوصفها جزءً مما يسمى ب الثقافة التعبيرية (Expressive Culture)التي تعزز افتراضات الثقافة السائدة 0
إن المؤلف الذي مات، كان لسان حال واضح للمجتمعات الكلية المستندة إلى نظم رمزية تعمل على تنظيم الشئون الاجتماعية، وكذلك رؤى العالم الجماعية 0
وتعد النظم الرمزية بني إنسانية تعمل كالغرائز التي من خلالها يوضع السلوك الإنساني في قوالب روتينية ثابتة، يمكن التكهن بوجودها على المستوى الاجتماعي0 
وتقوم هذه النظم أيضاً بقولبة الخبرات الإنسانية بوضوح واستمرار، وهي تزود الأفراد براحة نفسية، بدلاً من الإضطرار الذائم لإتخاذ قرارات فيما يجب إزاء المواقف المحددة، أو إعادة تعريف تلك المواقف بإستمرار يقول "إرنست كاسيرر" الإنسان حيوان رمزي وليس عقلانياً، فالعالم الرمزي عو عالم الأساطير والأديان والفلسفات والأيدولوجيات وهو يقدم تمثيلاً للواقع، ولا يقدم الواقع في وجوده العيني المباشر، فمعتقدات العالم الرمزي متحررة من الحقيقة0 فتلك الرموز والتمثيلات الرمزية بالغة التجريد، ولديها القدرة على التعالي على الحياة اليومية، بل تفرض نفسها على الحياة اليومية، والوجود البشري العيني، وعالم الخبرة المعتمد على التجريب0 
وأيضاً يبنى تمثيل الواقع عن طريق السرديات، الرموز، الشفرات والطقوس التي تستعمر الخيال منتجة للتحيز، إذ تتشكل فيه سلاسل المعاني على أسس هرمية بدءً من اللغة التي تستمد سلطتها من الخارج، فأقصى ما تفعله اللغة هو أنها تمثل السلطة وتظهرها وترمز إليها 0 لذا تشكل الخطابات واسطة تنتظم في بنية، بغرض فرض النظام القائم على أنه نظام طبيعى، عبر الترسيخ المقنع لبنيات ذهنية تلائم موضوعياً البنيات الاجتماعية، ولا شك من وجود قواعد بلاغية محددة تميز جميع أشكال الخطاب الذي يصدر عن المؤسسة الرسمية، وكذلك الكلام الرسمي الذي ينطق به من سمح له بأن يكون ناطقاً بلسانها "المؤلف" ومن عهدت إليه سلطة التكلم علانية، وهي سلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة 0  
وهنا لا تنبع قوة الكلمات وسلطتها من التعبير الشخصي (كما سبق وأكدنا) فالشخص لا يكون حاملاً لها، ناطقاً بلسانها، فكلامه / كتاباته يكشف / تكشف فقط الرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة وأوكلت إليه مهمة الكلام بإسمها وأسندت إليه السلطة 0
تخلق النظم الرمزية المهام والأوصاف التي يقال عنها أنها ذات شأن فتولد الأعمال والأعضاء الذين يوصفون بأنهم من ذوي الأهمية، سواء في نظرتهم إلى أنفسهم أو من وجهات نظر الآخرين 0 هنا تعمل الثقافة المهيمنة على التكتل الفعلي لأفراد الطبقة السائدة، فتضمن التواصل المباشر بين جميع أعضائها وتميزهم عما عداهم من الطبقات 0 وهي بهذا تساهم في خلق التكتل الوهمي لأفراد المجتمع، ومن ثم تعمل على تبرير النظام القائم عبر إقرار الفروق وإقامة المراتب وتبريرها 0 ولذلك يتحدد النشاط التربوي بإعتباره "عنفاً رمزياً" ، أي كنظام من علاقات القوة المنعقد بين الطبقات والجماعات، ويميز بين الغالبين والمغلوبين 0
كيف يسيطر "المؤلف الإله" على المعنى؟
بالطبع ينشأ المعنى المبدئي من تنظيم الشخصيات في موقف، ومن ثم يبدو التناول التكتيكي للممثلين - من خلال أدوارهم كنظائر إنسانية في لعبة إستراتيجية، إذ يتصور المؤلف الإله، علاقات إنسانية مجسدة، خادعة أم مخدوعة، صالحة أم طالحة، ومن ثم يوجد المعنى في العلاقة بين الشخصيات، وفي تواطؤ المتفرج مع شخصية في مواجهة أخرى 0 
وعند جاك دريدا، ينتمي المسرح الكلاسيكي إلى المرحلة اللاهوتيه، وهو يستخدم لغة سلسة، فعلاماتها يمكن إدراك مدلولاتها بسهولة 0 ويجري أيضاً إستخدام المعنى الأدبي للكلمة مع التأثيرات اللاأدبية المتمثلة في الحركة والسكون، والإيماءة بصفتهم التعبير المتكامل عن المعنى، فلا يمكن تجزئتهم في العرض بعد ذلك، حتى لا يفصل المتفرج التعبير اللفظي عن التعبير الجسدي0 فعلى سبيل المثال يقوم "فاوستس" جوته بجرح ذراعه، ذلك الجرح الذي لا يمكن فصله عن كلامه والتصريح به:
أنظر يا مفيستوفوليس، من أجل حبك أقطع ذراعي
وبدمي الصحيح أؤكد لروحي أن تكون ملكاً للوسيفر
السيد الرئيس، ومتولي الوصاية على الليل الدائم
في المثال السابق يضئ الفعل والتعليق التفسيري أحدهما الآخر، ويتقبل الجمهور ما يراه ويسمعه بإعتبارهما وحدةً واحدةً تتكون من: الفعل، الجملة، الحركة، السكون، فجميعها تنبع من اللحظة نفسها، من مفهوم المؤلف 0 
وكذلك تبدو الاستعارات كواحدة من أهم طرق السيطرة على المعنى 0 فالإستعارة طريقة للرؤية من جانب، وتضيئ الفهم من جانب آخر0 
وخطورة الاستعارة في كونها تبني الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نتصرف بها، ونظم معتقداتنا ومعارفنا، بأشكال عميقة وأساسية، والاستعارة ليست شيئية في مظهرها، فطرقها في المقارنة مع العالم المادي ملتوية في الغالب، ولا تمس الموضوعات المطروحة، بل تمس فقط مختلف أشكال تمثيل هذه الموضوعات 0 وفي مسرحية "عطيل" ل "شكسبير" يأخذ بطلها في تكرار جملة (أطفئ الضوء وبعدئذ أطفئ الضوء) 0 إن التكرار في مثل هذا السياق يشير مسبقاً إلى المقارنة التي يوشك شكسبير أن يعقدها بين المصباح الذي يحمله "عطيل" وبين حياة "ديزديمونه" ووجودها، ويوحى إيقاعها الثقيل بالنبرة المتوترة والحالة النفسية التى تستحوذ على الرجل 0
بالطبع يعتمد الابداع القائم على تمثيل الواقع علي المجاز الذي يصنعه "والتر بنيامين" باعتباره من إجراءات توليد المعنى، والأصل التاريخي للدلالة 0 فالمجاز يكتسب معناه من التاريخ: أي بعد الخطيئة الأولى، وقبل يوم القيامة، وذلك إعتماداً على فرضية إنفصال اللغة عن الطبيعة 0 فالطبيعة ما تزال، ولا ينفك الانسان يحاول فرض معنى عليها 0 ويعمل المسرح المكتوب بلغة المجاز عموماً، على تحفيز تفسيرات أكثر دقة لنوايا المؤلف في كلام الممثل وحركته خاصةً عندما يرفع المؤلف العواطف إلى السطح، عبر إضفاء تعبير لفظي عليها 0 
ونؤكد في هذا المقام، أن النصوص قد تكونت إستناداً إلي ممارسات خطابية تم تكثيفها في صورة أعراف (شفرات) 0
ويمثل مصطلح شفرة أساسيات المنهج السيميوطيقي، وقد إنتشر منذ الستينيات في القرن العشرين، وخاصة لدى "رولان بارت" ويمكن تعريف الشفرة بأنها علاقة تبادل دلالي بين عنصرين يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر، أي أن هناك مجموعتين من العلامات تترجم كل منهما في الأخرى، مثل شفرة "مورس" حيث تشير كل علامة إلى حرف من حروف الأبجدية 0
الشفرة إذن هي قناة نقل الرسالة، وتظهر بمظهر قانون التماثل بين نظامين متعارضين0 أيضاً هناك دلالة أخرى لكلمة شفرة "Code" وهي أن الشفرة هي مجموع القواعد والقوانين التي تحدد السلوك الذي يجب أن يتبع في مواقف معينة 0 
وهناك فرق واضح بين اللغة والشفرة، فكلاهما لا يتماثلان، فالشفرة لا تنقل إلا رسالة واحدة، بينما قد تعبر اللغة عن علاقة المتكلم الذاتية بالواقع، فيتم خلقها من جديد، وفقاً لطبيعة المتكلم الذي يستخدمها، وطبقاً لأفكاره وثقافته، ومرحلته الزمنية والسنية، لتصبح اللغة في تلك الحالة مجرد تفسير معتمد للواقع في المعرفة الإنسانية 0
إن الفرد يتعلم الشفرات التي تلعب دورها كمنظم للحياة الاجتماعية غير أنه لا دور لها في تعيين الدلالة، كما تمثل الشفرات بالنسبة إلى الأدب والمسرح "النسق" الذي يتخلق كلاهما من خلاله، فهي مجموعة القواعد الثقافية والحضارية التي تحكم إنتاجهما0 
كيف مات المؤلف بصيغته المعهودة التقليدية؟
هناك ثلاثة إنقلابات أدت إلى هذا الموت: 
أولاً: الإنقلاب الفلسفي على يد "كانط" في القرن الثامن عشر الذي تعين عليه الإجابة على السؤال هام هو: ما هو البرنامج الأخلاقي للمستقبل؟ وقد جاءت إجابة "كانط" بمثابة صرخة جديدة في ميدان الفكر والثقافة 0 فإن نعامل الآخرين كغايات لا كوسائل، فذلك لا يعني إلا فكرة تفوق الانسان كغاية في ذاته، وهو أمر يستوجب قلب لعلاقات القوة في المجال الفلسفي حتى يتم إعطاء المواقف التي كانت منبوذة من قبل شكلاً من الاحترام الواجب 0 
وفي القرن التاسع عشر، رأى نيتشة وماركس وفرويد أن التقاليد تقيم أبنية أيدولوجية تمنعنا من فهم أنفسنا0 لذا قام ثلاثتهم بدور بالغ الدلالة في الكشف عن أبنية السلطة والاتساق المشوهة للاتصال 0 
عمل ماركس على إستعادة التلقائي البشري من براثن الأبنية المتحجرة، فكشف عن الانساق البنائية للطبقات والاقتصاد في التاريخ، ليؤكد على إمكانية مزاولة البشر لحياة إنسانية لها معنى 0 كذلك أصر نيتشة في كتابه (مولد التراجيديا) على تحرير المشاهدين المعاصرين من قبضة النظرية الجمالية حتى يمكن إستعادة سلطة الفن 0 أما فرويد فقد إنتقد الأنساق الثقافية والاجتماعية للمجتمعات البورجوازية، فتحدث عن كبت الميول والغرائز في المجتمعات ضمن ما أسماه ب (إقتصاد الغرائز) 0
وفي القرن العشرين ظهرت الظاهراتية (الفينومنيولوجيا) التي دعت إلى الإلتفات للأشياء نفسها بدلاً من تضييع الوقت في التفاسير التي تتراكم فوق بعضها البعض على سطوح الأشياء0 يمكننا إذن تعريف الظاهراتية بوصفها منهجاً يعيد للفلسفة صلتها بالتجربة المعاشة والعادية، وهي بذلك تعد فلسفة واقعية حقيقية 0 فالهدف يتمثل في العودة إلى الأشياء نفسها0
وقد تلخصت من حمولتها المفاهيمية، أو المادة الخارجية الدخيلة، حتى نصل إلى قلب التجربة التي تعيد صلاتنا بالحياة 0 ويكمن الركن الأول في الظاهراتية في (الوصف) الذي هو مهمة تحرر، إذ يعيدنا إلى العالم الذي نعيش فيه، فعبره نسترد عالمنا الشخص بكل ثرائه، ونرتب العالم وفقاً لمنظورنا الخاص وحوله، بما يقتضيه ذلك من التخلص من الصيغ المكرورةللفكر، والعمل على تنحية الأفكار المتوارثة كي يعود الانتباه إلى الأشياء، والإمساك بها على نحو ما تظهر وتتبدى بالضبط 0 
ويمكن إعتبار الظاهراتية فلسفة فردية تحتقر الجموع الذين أطلق عليهم مارتن هيدجر مصطلح (The They) أي (الهم) الذين يسعون إلى إسقاط (الدزاين) التي تعني الكائن هناك تحت سطوتهم حال إزدهار الاتجاهات (التوتاليتارية) ف(الهم) كيان ضبابي، غائم وغامض، ويوجد في كل مكان ولا مكان، هو ليس شيئاً محدداً، بل كل واحد منا0 فذلك (الهم) مثل الكيتونة كلي الوجود على نحو تصعب معه رؤيته 0
وعند هيدجر يتطلب العيش على نحو أصيل أن نقاوم تأثير (الهم) وأن نفوقه دهاء، وهي مهمة ليست باليسيرة0 فإذا لم يكن المرء حراً فسوف يشكله (الهم)، وسيتولى إتخاذ القرارات المهمة التي ينبغي أن يتخذها المرء لنفسه، فالهم يسحب من المرء مسئوليته، وينزلق به إلى التفاهة والفشل في التفكير0
إستعار هيدجر من الصوفي الألماني(إيكهارت) في العصور الوسطى فكرة (ترك الكائن يكون) التي تعني حضور المرء إلى الأشياء خالي الوفاض (بدون أفكار مسبقة)، فالمسألة ليست مجرد إنصراف عن العالم أو اللامبالاة به، لكن أن ندع كل شئ كائن يقدم نفسه بطريقته الخاصة، وبذا نعين الأشياء على الظهور والإنبثاق إلى النور، فنكتب الوعي بها تماماً، وبذلك لا يصبح الإنسان وعاءً مليئاً بتمثيلات الأشياء 0 
وكذلك يعتقد هيدجر أن الوجود الأصيل إنما يعتمد على إسقاط الذات على مستقبل ما، لذلك يبقي دائما وجوداً انتقاليا بين ما كانه وبين ما يسعي أن يكونه 0 ويذهب هيدجر أن الكائن الإنساني يتشكل بواسطة الزمان، إلا أن ذلك الزمان ليس وسيطاً نتحرك فيه كما تتحرك حزمة طافية من القش في نهر، فالزمان هو صميم بنية الحياة الإنسانية نفسها، بعد من أبعاد الوجود، يُصنع الانسان إبتداءً منه، قبل أن يكون ذلك الزمان شيئاً ما يقيسه0 فالانسان لدي هيدجر ملقى به إلى الأمام، وغير مستطيع أن يمسك بوجوده كموضوع إكتمل إنجازه، فهو إمكانية متجددة، وإشكالية دينامية داخلية لتجاوز دائم للذات، فالانسان هو ذلك الواقع في موقف عياني مطروح للتجاوز0 كما أن الزمان هو طريقة لمعايشة نمو الحياة الشخصية فهو يشير إلى الفرد الذي يسلك طريقاً مستقلاً ذاتي الفعل، في مطابقة بين فعله وطبيعته الأنطولوجية، فالفرد لا يحيا دون أصالة، وإلا أصبحت تلك الحياة فارغة مسطحة، والأصالة في أن لا يترك المرء حياته تحددها الأعراف الروتينية والآخرون في إنقياد0
وقد تحولت الظاهراتية عند إيمانويل ليفيناس إلي فلسفة أخلاقية بدلاً من كونها أنطولوجية لدى مارتن هيدجر0 فقد رأى ليفيناس أن التجربة محكومة دائماً بعلاقة مع الآخر، وهذه العلاقة هي علاقة تواصل وترقب أخلاقي، كما تتحدد في الأعتراف الأساسي الذي يمنحه مخلوق حي لآخر0 فهكذا تصبح العلاقات بمثابة حجر الزاوية في وجودنا العيني، وليست مجرد إمتداد له، فهذه العلاقات أكثر جوهرية من الذات Self، وأكثر جوهرية من الوعي، وأكثر جوهرية حتى من الكينونة، فهي تجلب إلتزاماً أخلاقياً لا مفر منه، مما يضع مطالب الأخلاق في الصدارة، وهو ما يمثل لدى إيمانويل ليفيناس راديكالية أخلاقية 0
وبالإنتقال إلى فيلسوف ظاهراتي آخر هو (ميرلوبونتي) نجده يصر على الا ننظر إلى الجسد بوصفه مجرد فكرة تاريخية، أي كنتيجة لتكرار مستمر لعدد من الإيماءات والحركات هي منشئة للجسد، فتعطيه سماته الثقافية والعرقية والفردية0 أصر بونتي على النظر إلى الجسد بوصفه مرجعاً من الإمكانيات اللانهائية التي تتحقق بإستمرار في الواقع، ومن ثم تنبثق الهوية 0 
كذلك أصر بونتي على أن التفلسف يجب أن يبدأ مع تجربة المرء مع الظواهر، إذ تأتي مثل هذه التجربة من خلال الأجساد الحاسة المتحركة المدركة، ومن ثم لابد أن يتلازم الإدراك مع حركة المرء في العالم0 وهو أمر أثر أكبر التأثير على المسرح، فجسد الممثل لا يصبح حاملاً للمعنى، بل هو هيئة مادية تشكل العرض في تجاهل للشخصيات الوهمية داخل عالمها الوهمي 0 
ثانياً الانقلاب التكنولوجي: -
تسيدت الآلة المجتمعات الغربية، وسيطرت التقنية على مختلف أوجه الحياة، وفي الأهم منها السلوك الاقتصادي، فذاب الفرد في وظائفها التقنية، واتخذ وجوده طابع القناع، فلا من روابط أو عواطف تربطه بالآخر زميله، ولما كانت تلك المجتمعات تنهض كذلك على التنظيم البيروقراطي الشديد في إطار منطقة الحياة Rationali Sation فقد توجه ذلك التنظيم إلى الفعالية والأمتثال لنظم تسلسل السلطة وإحتكار إصدار القرارات، وهو ما ينزع المبادرة خارج ذلك الإطار ويؤدي إلى السكون والسلبية0 
ولما كان منطق العلم هو التقنية، فهو يلاحق الأهداف الخارجية فحسب، ليكتسب العلم بذلك صفة اللا – منطق0 ويعني انهيار المنطق، انهيار المرتكز الأساسي في فكر الإنسان وعلاقته بالآخرين، فيتكيف الفرد مع الجماعة في شكل من الرضوخ، ويتم إستيعاب كل شئ فيه، بما في ذلك حرية التفكير0 في نفس الوقت الذي يحيل فيه القانون الاقتصادي السائد - بماديته السلعية – يحيل الحياة إلى آلية للتحكم والخضوع 0 
دخلت المجتمعات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية إلى ما يسمى بمجتمعات ما بعد التصنيع أو ما بعد الرأسمالية، أو المجتمعات الإعلامية، وهي مجتمعات قوامها الاستهلاك، وتعتمد على إنتاج الخدمات لا السلع 0
كما خضع المجتمع الغربي في حركته لسلطة المعلومات لا لسلطة الآله، ليتبرمج المجتمع في نظم إنتاج مهيكل بصفة عالية ضمن صيرورة التعليم والبحث العلمي وأنماط الاستهلاك وتنظيم الإتصال ونظام السلطة0 إن الملكية لا تعود أداة السيطرة وحدها في المجتمعات ما بعد الصناعية أو الإعلامية، بل هو التحكم في وسائل الهيمنة الثقافية والأيدولوجية، التي هي بحق آليات تصميم التغيير0 وبالطبع كان للتقسيم المتزايد للعمل أثره في تحلل الروابط التقليدية التي تجمع بين الأفراد مثل القيم الدينية، أو الروابط العائلية، مما جعل العلاقات بين هؤلاء الأفراد محض عضوية، التي لا تعتبر كافية لإحداث شكل من أشكال العقد الاجتماعي، أو لعمل توافقات بين أفراد المجتمع حيث تختلف التجارب، وتتنوع الخبرات، بما يتسبب في صعوبة الاتصال المتبادل إن لم يكن إنعدامه0 ومما يزيد الطين بلة، الغياب الملحوظ للنخب الثقافية، التي لم تعد تشكل ذوق المجتمع وقيمه، لتظهر الدعوات المطالبة بنظام أخلاقي يوجد نوعاً من العقد الاجتماعي المعنوي0 
وكذلك يعيش الإنسان المعاصر سياقاً حضارياً يشهد على تلف المعنى وضمور المراجع وتفككها، فقد ماعت حدود العالم، إنهالت عليه الدوال في صخب لا يهدأ، فأصبح يحيل إلي اللا شئ، أو يحيل إلى العدمية، في إشارة إلى إنفراط العقود الأجتماعية التي طالما عضدت فكرة تلاحم وتماسك البشر0 وفي مجتمع المعلومات الذي تطغى فيه المعلومة ويدعم قوة تدفقها فرضية إختزال العلامة في الدال دون الوقوف عند المدلول، بفعل هيمنة العابر، تتلاحق الدوال بسرعة البرق عبر الوسائط التقنية للإتصال أي صور الإثارة والإغراء، صور الأستهلاك وأيضاً صور الموت والحروب، وكلها تنتج تعميق التماثل والتشابه في الخطابات المعاصرة، وإتلاف الاختلاف، ونفي الأصول والمرجعيات 0 
وعلى الرغم مما ذكرناه في السطور السابقة، فإن ما يثير في هذا الموضوع هو تلك العين "البرجسونية" التي ترد البشر من جديد إلى الأشياء في بعدها الخام، بعيداً عن وساطة الخطابات وسلطات التأويل والتفسير السابقة0 إن ربط الناس بالدوال، إنما يدفع إلى معرفة الأشياء كما هي مقدمة لحواسهم، كما يحمل الميتافيزيقا إلى ميدان التجربة والوقائع في معانقة للواقع العيني المباشر دون وسيط إلا الحدس والحس والجسد0 لذلك كله يصبح اليومي المعيش هو المنتج للدلالة والجمال والمعنى، توسلاً للأشياء كما يحضرها الوعي للناس، وهو يعد بمثابة رد للأعتبار إلى الوجود، إذ يصعب فهم العالم دون الرجوع إلى الفعل والممارسات كمعطيات، وكلها أمور يتوجب على الباحث والفنان وصفها وصفاً دقيقاً دون أي تفسير سببي، ودون إستناد إلى تكوين نفسي وإجتماعي، بل وصف تجارب الناس في حالتها الخام فقط0 
ثالثاً الإنقلاب الأدائي:-
في فترات كثيرة يحدث حدث قلب تام للعلاقات بين العناصر الفنية، فما كان يتسم بالصغر يصبح كبيراً، وما كان كبيراً لا يحتل مكان الصدارة0 يطلق (جورج لوكاتش) على تلك اللحظة (المعجزة) التي يكون طابعها تحويل الغموض الرئيس للحياة في العالم إلى وعي محدد، إلي مطلب شديد الوضوح 0 وإنطلاقاً من المقولة السابقة سنتحرى ذلك القلب التام في العلاقات: 
أولاً من المؤلف إلى الذات المتأثرة :
ضمن الإطار ما بعد البنيوي تم تفكيك الفكرة التقليدية عن المؤلف فعوضاً عن الأعتقاء الراسخ بأن النص يبدأ من الوعي القصدي لفرد ينتمي لأحد النوعين أي كذكر أو أنثى يتحكم في كل جزء من أجزائه ويرسم مصائر الشخصيات إلى نهاياتها المقدرة سلفاً، منتجاً المعنى الفريد به، رأي نقاد ما بعد البنيوية النصوص كساحات للمعاني والمقاصد المتعددة، مفضلين إستخدام مصطلح الذات المتأثرة بدلاً من مصطلح مؤلف، في إيماء لافت للنظر بأن القصد الواعي ليس إلا دافعاً واحداً ضمن كثير الدوافع التي تقرر المعنى، فالرغبات اللاواعية تتحدث كذلك بواسطة الكلمات0 كما أن الكلمات نفسها تأتي مشبعة بالتنضيدات الاجتماعية بالقدر نفسه، فتظل في إستخداماتها السابقة ومعانيها السابقة في الكثير والكثير من الأحيان نشطة إلى حدود لا يمكن تعيينها في إطار أي ترتيب جديد0 لذلك السبب أصبح مصطلح التناص يستخدم في الوقت الحالي للإيحاء بأن العديد من النصوص أو الأصوات التي تشتمل على القصد الشعوري للمؤلف، والرغبات اللاواعية، والتنضيدات الاجتماعية الحالية والسابقة، كلها تلتقي في أي عمل يدعي الفردية والتفرد 0 
ثانياً الإنتقال من النفس القصصية إلى الحد الأدنى للنفس: 
كانت الطاقة القصصية تقدم لنا ساحة معيارية، نستطيع أن نحدد من خلالها ونقيم أفعالنا وأفعال الآخرين0 فما دمنا نشكل فهمنا لأفعال الآخرين في صورة قصصية، فإن شكل القص مناسب لفهم أنفسنا0 
وفي مقابل النفس القصصية هناك أصبح ما يعرف ب "الحد الأدنى للنفس" الذي يشير إلى أى كيان يتمتع بخبرة جسدية عن نفسه في الزمن الحاضر0 
إن كل حركة جسدية وفعل جسدي هي جوانب أساسية للخبرة، وترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحقيقة التي تفصح عن نفسها من منظور المتكلم 0 لذلك يمكن تحديد خصيصة الحد الأدنى للنفس بإعتبار أمراً له علاقة بالجسد، فهو الذات الحقيقية المجسدة صاحبة الخبرة التي تصبح راوية لقصتها الخاصة، وهو ما يدفع إلى مزيد من إحساس الفرد بنفسه، ومزيد من التشكيك في الحقائق الكلية، وفي الهيئات والمنظمات، فكل شئ يصبح نسبياً بشكل مطلق، وهو ما يعني إنهيار المعايير وصحتها وصلاحيتها0 فالتعدد الوجودي يعجز عن الأمتزاج في صورة واحدة للعالم تتسم بالثبات والإستقرار، كما أن إعتبار الأشياء فردية يحول دون إمكانية للتفسير الموحد، ويركز علم الجمال الحديث على الإستجابة الشخصية المنعزلة للعمل الفني0
ثالثاً الإنتقال من الجسد السيميوطيقي إلى الجسد الحر:-
الجسد الذي عرفته البشرية كما في منطقتنا العربية كان جسداً منصوصاً له، بواسطة حركات التعبد الطقوسية بمدلولاتها الثقافية العميقة والراسخة في وجدان من يؤديها ومن يشاهدها 0 
فهذا الجسد هو ناقل لمعنى محدد واضح، لذا تطلق عليه (جوليا كريستيفا) مصطلح الجسدية السيميوطيقية0
ينفك الجسد في العروض الفنية في تلك السيميوطيقية، ليعرض إمكاناته وطاقاته المكبوتة في الواقع والمسكوت عنها، ليصرح بما لم تنطق به الكلمات في حرية مخيفة تتجاوز الأطر الثقافية والأجتماعية وكافة المرجعيات المتعارف عليها0 ليصبح الجسد، هو دال لمدلولات متعددة وجد متباينة0 إن المتفرج التقليدي يصاب بحالة من حالات الذعر والاضطراب العصبيين، فالمرتكزات والمرجعيات التي كان يعتمد عليها في حياته، يراها بأم عينه تفلت من بين يديه، بما قد يؤدي إلى التطرف في الاتجاه المضاد 0 
عملت العروض الفنية على إلغاء البني التراتبية بين عناصر العمل المسرحي بين عناصر العمل المسرحي بواسطة إعلاء الأداءات غير اللفظية : الموسيقى، الرقص، الصورة، والحركات الجسدية والإيماءات، وذلك ضمن كولاج مسرحي يؤدي بالضرورة إلى سيولة ضبابية للمعاني التي تصل مجزأة إلى المتفرج فلا تحقق فورية الفهم التي أشار إليها يورجين هابرماس0
فالمتفرج لا يجد في هذه الحالة (رابطاً قوياً) بين هذه الأداءات يساعده على تلقي العمل بشكل كلي ونهائي، وبما لا يوفر له إمكانية الأندماج مع ما يشاهد، إذ لا يعود المتفرج على معرفة بواقعه الذي فقد مركزيته التي كان يعتمد عليها في تفسير العمل وتأويله، وهو ما أسماه (هانزليمان) ب سرقة الواقع0
يعاني المتفرج لهذه النوعية من العروض المسرحية، من حالة إضطراب داخلي عظيم، بسبب تخمة الدوال وسيولتها المفرطة0 
رابعاً الإنتقال من المتفرج السلبى إلى المتفرج الإيجابى المشارك:
تجاهلت النظرية الدرامية التقليدية دور المتفرج وإسهاماته في تشكيل المعنى0 أما العروض الفنية، فالنظرة إلى المتفرج جاءت نظرة إيجابية كوسيط فاعل في إنشاء المعنى / المعاني 0  
المراجع:
1. مقدمة في علم الاجتماع الثقافي، مجموعة دراسات، ترجمة: سامية قدري (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2019)
2. سارة بكويل على مقهى الوجودية، ترجمة: حسام نايل (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2019)
3. بيير بورديو، الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر، ترجمة: سعيد العليمي (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 20105)
4. موسوعة الهرمانيوطيقا، مجموعة مؤلفين، ترجمة: محمد عناني (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2018)
5. إسرائيل شيفلر، العوالم الرمزية، ترجمة: عبد المقصود عبد الكريم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2016 )
6. ميشيل فوكو، جينالوجيا المعرفة، ترجمة: احمد السطاتي، عبد السلام عبد العالي (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط2، 2008) 
7. محسن بو عزيزي، السيميولوجيا الاجتماعية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)
8. سياسة العرض المسرحي، مجموعة دراسات، ترجمة: عبد القادر الجندي (القاهرة: مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)                                                                                                                                                                              
9. لوسيان جولد مان، الإله المحتجب، ترجمة: عزيزة احمد سعيد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015)
10 مارفن كارلسون، فن الأداء، ترجمة: د. منى سلام (القاهرة: مكتبة الأسرة 2010) 
*المؤتمر الفكري: اصداء تجارب موت المؤلف...خلفيات وتنظيرات وتعارضات /مهرجان المسرح العربي 14/ بغداد 11\1\2024.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون