ذكرى رحيل"العربي باطما"...البلبل الصداح لفرقة"ناس الغيوان".
2023 ,07 شباط
رسمي محاسنة: صوت العرب .
تمر اليوم السابع من شباط ذكرى وفاة " العربي باطما " ، نجم فرقة " الناس الغيوان " المغربية الشهيرة. التي عملت انقلابا في مفهوم الاغنية ، ودورها ، ورؤيتها ، وحققت جماهيرية تجاوزت " جبال اطلس " الى العالم العربي والعالم .
وقبل ايام قليلة، كنت في الحي المحمدي بالدار البيضاء،استفيء بمهابة المكان على بساطته وفقرة،لا اعرف كم مضى من الوقت وانا اقف اجيل النظر مابين مقهى السعادة المزين بصور فرقة ناس الغيوان، ومابين مدخل البيت الذي عاش فيه "العربي باطما"،يلتغي الزمن تماما،وتحضر ذاكرة سنين من الابداع المختلف الذي قلب الطاولة على الغناء المستكين،وتحضر اصوات وتايقاعات "ناس الغيوان"،لتحفر في القلب، مثلما كانت تدق بجرأة على خزان سنوات"الجمر والرصاص".
التقيت "العربي باطما" مرة واحدة ، وتحدثنا عن مفهوم الاغنية الوطنية والسياسية ، والتاثير الكبير الذي احدثته اغاني " الناس الغيوان " في بحيرة الغناء الراكدة ، حيث كان يسيطر لون من الغناء المغاربي ، الذي كان يغلب عليه الطابع الديني ، التصوفي ، بما يحمله من شكوى ، ورجاء ، وهروب نحو الغيبيات، وكان " رحمه الله " يسأل عن مدى فهمنا هنا في " المشرق العربي " للمفردة المغربية ، وكان جوابي "مع بعض الخجل"، ان نقص معرفتنا بكثير من المفردات ، يعوضه احساسنا بالموسيقى ، وبالاداء العالي المحمل بشحنة انسانية هائله من المشاعر في غناء الفرقة.
ولمعرفة فلسفة " الناس الغيوان " لا بد من الرجوع الى الفترة الزمنية التي ولدت من رحمها ، حيث الارهاصات والتحولات الكثيرة في المغرب وفي العالم ، فالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المغرب ، كان يمر بمرحلة " سنوات الجمر " حيث الفساد والرشوة ، وغياب العدالة الاجتماعية ، والفقر ، و " سنوات الرصاص " حيث قبضة العسكر القاسية التي كانت تخنق الانفاس ، فيما العالم العربي خارج من هزيمة 67 ، وحركات التمرد الشبابية تجتاح العالم ، وحركة اليسار العالمي تتمدد بقوة ، وظهرت فرق موسيقية عالمية ، تكسر المألوف في الشكل الموسيقي ، والمضامين .
وسط هذة المناخات ظهرت فرقة " ناس الغيوان " الذين بدأوا في المسرح ، مع المخرج " الطيب الصديقي " الذي اعطاهم حرية الحركة ، والقول ، على المسرح ، هذة الارتجالات التي وجدت قبولا وتفاعلا لدى الجمهور ، ادركوا من خلال رصدهم لردة الفعل هذه ، بمدى تاثير الموسيقى والغناء على وجدان الناس ، بعد ان لمسوا سحر اغنية " الصينية " واغاني مسرحية " الحراز " على جمهور " مسرح البلد".
وفي هذه اللحظه يقرر المبدع الراحل " بوجميع " ان يشكل فرقة غنائية ، ليجمع معه " العربي باطما " و" عمر السيد " و" علال يعلى " ليكون عام 1971 شاهدا على انطلاقة فرقة انحازت بالمطلق ، للناس البسطاء وهمومهم ، واصبحت لسانهم الذي يعبر عنهم ، ومنبرهم في زمن الصمت. فهم جميعا قادمون من رحم هذا المجتمع ، وتحديدا من البادية الاكثر براءة ، وفقرا ، وقهرا ، والاكثر معاناة من اساليب الظلم وادواتة القاسية ، التي خلقت انكسارات وهزائم ، ووجع يمتد على حدود الوطن ،حيث اعادوا انتاج ما ورثوه في شكل غناء وموسيقى ، جاءت بمثابة البوح عن ذلك المكنون من المسكوت عنه ، خوفا ورهبة ، او عجزا تحت وطأة مذلة رغيف الخبز ، وهامش الحرية المفقود .
" العربي باطما " القادم من " الشاوية"، الصحراء البائسة ، الى " الحي المحمدي " في الدار البيضاء ، في حي من الصفيح ، في المدينة العمالية ، وقضى طفولة مشردة ، عاش فيها تفاصيل حياة الفقر باقسى مفرداتها ، ويكون التحدي الاكبر بعد رحيل " بوجميع " في موته " الملتبس " الذي كل الدلائل تشير الى انه مات مسموما ، فيتصدى " العربي " للمهمه ، وتبدأ مرحلة جديدة للفرقة ، من خلال الاغاني التي استجمع فيها ما يختزنة من موروث ، ومن حكايا "والدتة" ، يعيد صاغتها موسيقيا ، وغنائيا ، واداء باحساس قل نظيرة ، فهو " البلبل الصداح " بكل ما يحملة صوتة من قوة ، وشجن وحزن ، وتفاؤل ، بحضورة الطاغي ، وقامتة المهيبة ، وشعرة الطويل المنسدل ، وملامح الفروسية والجرأة التي يحملها وجهه، صوت يحمل موسيقاة الداخلية التي وجدت صداها عند الشباب المغاربي ، فكأن صوتة معادلا للواقع البائس الذي يعيشونه ، يحملهم الى عوالم " مشتهاة" تحملهم ولو لبعض الوقت ، الى عالم من صناعتهم واحلامهم ، ونموذجهم امامهم ، انه " العربي "يكفي فقط ان نسمعه ونشاهده وهو يقدم موال اغنية " السقام" ، التي يستصرخ فيها اهلة ومجتمعه ، ويتساءل عن الضؤ الذي مايزال محجوبا ، وحق الناس بحياة انسانية كريمة تليق بهم .
لم يكن العربي مولفا غنائيا ، وموسيقيا ومطربا فقط ، لكنه ايضا كاتب سيناريو ، وممثل تلفزيوني ، وروائي ، شارك بالعديد من المسلسلات والافلام،ونشر في حياتة رواية " الرحيل " التي تعتبر فتحا جديدا في الرواية العربية ، من حيث سرد السيرة الذاتية ، والبوخ ، والاعتراف ، بجرأة ، اعتقد ان قليل جدا من المبدعين من يجرؤ عليها . بوصفة للبيئة ، وظروف حياتة ومعيشتة ، وعائلتة ، ووالدة ، والكثير الكثير عن مغامراته وحماقاتة في فترة مبكرة من حياتة.
ويستكمل سيرتة برواية " الالم " التي كتبها في سبعة ايام ، وهو في المستشفى ، يسابق الزمن ، ويتنافس مع " الموت " لكسب صباح جديد ، هذة الرواية التي يحكي فيها تجربتة ، ويسترجع ذكريات مسيرته ، باسلوب متداخل ، يختلط فيه الزمن الروائي ، يكتب يوميات موتة الذي يقف له على الباب ، وجولات العلاج ، والترهل واللامبالاة في المستشفيات ، والاطباء الذين لايهتمون لموت الناس .
لقد عرف " العربي " ان السرطان ينهش صدرة بالصدفة عندما كان يصور احد الافلام في المستشفى ، ويشكو للطبيب الاعراض التي يعاني منها ، ليعرف بحقيقة المرض الخبيث ، وكما ذهب صديقة ورفيقة " بوجميع " في موت " ملتبس " فان " العربي " ذهب في موت " فجائعي " هد شبابة وحيويتة ، يتحدث عنه في رواية " الالم " بحزن وايمان عميقين .
لم يمهله الموت ، ليكون صباح يو م السابع من شباط 1997 نهاية مبدع اعطى من روحة ، واحساسة ، دفقات من الابداع التي ستبقى خالدة ، وعلامة فارقة سواء على مستوى الموسيقى والغناء وتاثيرة بوجدان الناس ، او على مستوى " النموذج " الذي قدمه للمبدع الحقيقي ، المسكون بامال الامة وهواجسها ، والقريب من احلام الناس البسطاء " المهمومين " ، الباحثين لهم عن مكان تحت الشمس ، وعن اولئك الذين ابتعهم البحر وهم يجتازونه الى الضفة الاخرى، عن افريقيا وخيراتها المنهوبة،ولم يكن اسيرا لموروثة المحلي ، وهموم بلدة فقط ، انما تعدى ذلك الى البعد العربي والانساني ، وكان طبيعيا ان لايغيب المشرق العربي ولا فلسطين ولا العراق،عن باله ، فجاءت اغنية " صبرا وشاتيلا " ، تم اغنية " دومي يا انتفاضة دومي " ، و"صهيون " و" الصهاينة " حاضرون في تراث " ناس الغيوان " فهم " سرطان " الامة الغائبة عن الوعي والدور .
رحل " العربي باطما " رحل ابن " رحال " وصاحب رواية " الرحيل " ، المتمرد الذي رفض هو فرقتة ان يتم احتوائة تحت اي تنظيم او مسمى سياسي ، لان روحة اكبر من ان يتم احتوائها ، وحزبه هو " الناس " البسطاء والمعدمين ، المقهورين ، والمقموعين بسطوة تزاوج السلطة والمال ، وليعطي نموذجا للفنان " الموقف " المنحاز الى الناس ، بعيدا عن اية حسابات ، ونموذجا كم نحن بحاجة لاستذكارة ، واسترجاعة ، وسط هذه الحالة من " التواطؤ " التي يعيشها الفن عموما ، -الا من رحم ربي -.
غادر " البلبل الصداح " وتم رثاؤة باغنية " مايدوم حال يا مجذوب الغيوان " التى ودعته فرقتة بها ، بعد ان مات رفيقه " بوجميع " ولحق به"عبدالرحمن باكو"،واصاب الجنون رفيقه الثاني "علال " ، ونسجل على " عمر السيد " ،تساهله في التنازل عن تراث الفرقة.
في ذكرى رحيل "العربي باطما"،تغيرت المواقف،واستهوى الكثير النوم في حضن الاخر،واستثمر البعض في الاغنية السياسية،وللاسف لم يتم الاحتفاء بفرقة"ناس الغيوان" بما تستحق،باعتباها شاهد على مرحلة، وصانعة وجدان.
الا يكفينا اننا عشنا في زمن الناس الغيوان ؟؟؟؟؟.
 
على مدخل البيت الذي عاش فيه العربي باطما في الحي المحمدي
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون