صمت للبسام ..تنويعات على ( رماد ) الفجيعة ..
2024 ,20 كانون الثاني
الفنانة حلا عمران في "صمت".
يوسف الحمدان:صوت العرب – البحرين.
من أي نص يمكنك قراءة وتأويل " صمت " سليمان البسام يا يوسف ؟ هل تكفي قراءته من النص المكتوب ؟ وهل المكتوب في النص يمكن قراءته بمعزل عن كونه صمتا ؟ إذن كيف نقرأ الصمت في النص والعرض ؟ كيف نقرأ بوح القصيدة وصمتها في آن ؟ كيف ندخل في عوالم الرؤية التي ينسجها البسام في صمته ؟ وأية رؤية تلك التي يعيد البسام صوغها وقراءتها كلما تجلى حضورها في العرض ؟ 
إذن هل يكتب البسام صمته في هذا العرض أم قلقه الفادح من هذا العالم وليس بيروت وحدها ؟ وأية ألغام تلك التي يفخخها أو يزرعها البسام في صمته القلق ؟ هل يبدأ صمته من النص المنثور على الورق أم أنه يبدأ من حيث انتهت الكتابة في هذا النص ؟ هل كان البسام في عرضه محققا آخر لصمته المكتوب أم أن ما جاء في هذا الصمت نتاج توصيات مستفيضة في ( مؤتمر هاملت ) التي شاكس البسام فيها بقراءته المعاصرة العميقة الأسئلة الكونية التي تأطرت في أذهان الكثير من المخرجين المسرحيين حتى تشابهت واستقرت لفترة طويلة ؟ 
في تحقيقه الشاخص الفادح لصمت ، نلحظ أن البسام يمعن في البحث عن الهوة الأعمق والأفدح والأكثر كارثية من حفرة انفجار مرفأ بيروت ، إنه يبحث في الهوة التي سبقت الانفجار والتي ترتب عليها بعد الانفجار هوة امتدت عموديا وأفقيا إلى أعمق أعماق خارطتنا العربية والدولية لتتسع الإدانة ويجثم الصمت المفجوع على قلوبنا لتمثل وتشخص الحيرة عظما حادا يعترض قنوات حلوقنا أمام سؤال أكثر فدحا من فعل الانفجار : من هو المتسبب الجاني الأول في جريمة انفجار مرفأ بيروت ؟ ومن الجاني على من ؟ 
البسام يحقق ويشكو وبيروت كذلك بطل الصمت كله في هذا العرض ، الممثلة النجمة التي عشقها كل الفنانين والجمهور والشعب ، تتماهى الأصوات وتتداخل ليفتح الصمت دياجير تأويلاته على آخر مصاريعها ، لتطفو على سطح ، وفي أعماق هذا الصمت صرخات سبقت أية صرخة وصمت ، صرخات مكتومة لا تسعفها كلمات الإدانة النصية المكتوبة ، ولا هلوسات واستغاثات الفرد الوحيد المتكثف في الحيوات والأشياء التائهة ، إنها زوايا الصمت إذ تتعدد وما من إجابة وكما لو أنها ( لا ) بيتر هاندكه الرافضة القلقة المتساءلة الغاضبة الساخرة .
إذن هل كان البسام في صمته هذا يشاخص حال الصمت العربي والدولي بعبثية تشبه ما بعد عبثية العبث والتي فجرها بجرأة غير عادية بيتر هاندكه في مسرحيته ( لا ) ، أو الكاتب اللبناني الراحل عصام محفوظ في نصه ( لماذا أو الديكتاتور ) ؟ 
مثل هذا الصمت هل يوجزه نص أو كلمات أم صرخات ترج المشهد اللبناني والعربي والدولي برمته ؟ هل نحن متفرجون سلبيون لا حول لهم ولا قوة تجاه ما يحدث ؟ هل نحن من يتلقى العرض ويغادره بصرخات مكتومة كالديناميت أو المتفجرات أو الألغام المفخخة تخشى أن يحركها أحد ؟ هل هي الصرخة المكتومة لمن قتل مصطفى العقاد وابنته في بهو فندق غراند هوتيل بعمّان ليلة زفافها ؟ هل هي صرخة الأم شجاعة لبريخت لحظة فقد أبنائها ؟ هل هي شريط كراب الأخير لصمؤيل بكيت ذلك الرجل الكئيب الذي كان يحلم بأن يكون كاتبا ويخلق أعظم ما لديه ولكنه بدلا من ذلك قضى حياته في حالة فشل وحيد ومرير ، ومن المفارقات أن رفيقه الوحيد هو صوته الذي يتفاعل معه طوال المسرحية من خلال استخدام جهاز التسجيل ؟ هل هي صفعة نورا إبسين للباب في وجه زوجها بعد صمت مفخخ بالصراخ والغضب ؟ هل هي معزوفة الوتر الأخير في كمان باغانيني ؟ هل هي شهقة الساموراي الأخيرة ؟ هل هي رقصة الفالس الأخيرة ؟ هل هي صرخة تريبيلوف الأخيرة في وجه السائد المدمر في الثقافة والحياة ؟ هل هي استغاثة ميديا الأخيرة بصفير الدلفين المتحشرج المهاجر بمسرحية ( آي ميديا ) للبسام نفسه والتي اختزلت فيها الممثلة السورية الفرنسية حلا عمران وعبرت زمنا خرافيا للفجع والفدح والوأد عبر التاريخ ؟ 
إن لحظة صفير الدلفين وحشرجاته المفجعة تشكل لحظة فادحة على صعيد الأداء بمختلف مستوياته ، وهذه اللحظة أقوى من كل كلام قد ورد كثير منه في هذا العرض ، إنها ذروة الفجيعة واختزالاتها الصعبة والمركبة ..
ألم تكن حلا عمران تلك المرأة المستوحدة بكآبتها وهلوساتها وشجاها وحزنها وسخريتها تختزل كل هذه الحالات وإن تباينت دلالاتها في صمت البسام ؟ 
هل هي مرحلة ما بعد التشاؤم في لبنان ؟ هل هي مرحلة النكبة الخالصة والمخاض العسير والصعب في لبنان كما شخصها الشاعر العماني سيف الرحبي .. هل هي زمن الرثاثة في كل شيء في وطننا العربي والعالم برمته ؟ ..
إن حلا وصوتها والفاجعة .. كانوا كل المرفأ والانفجار والشظايا والهزائم والخيانات والحيرة التي تحولت إلى ركام مرعب يتفجر في دواخلها .. هي وحدها والأشلاء والهزيمة شاهد على الانفجار ..
إن الصورة والحدث والفاجعة نراهم في صوتها وتلك فاجعة مشهدية أقوى وأفدح من أية صورة فيلمية أو ثابتة تترجم وترافق الأحداث ، هي الموسيقى والاضطراب والنزف الفاجع والاحتجاج والخذلان النفسي ، إنها القصيدة والشاعر المحب في آن ، المؤلف والنجمة ، الحلم والوهم .. 
إنه الصمت الفادح المربك المحير حيث لم يعد للحلم قيمة في زمن طغت فيه الأوهام على كل شيء حتى بتنا لا نميز بين رمل داعبته أناملنا وسراب سرق كل أحلامنا ..
وفي الوقت الذي ينضح فيه الصمت بالفجيعة والفدح والصراخ المكتوم والمكبوت والمعلن ، ينتقل بنا المؤلف المخرج إلى فسح الحريات في بيروت بمختلف نقائضها وإحالاتها محليا وعربيا ودوليا ، فهي الوردة التي نمت بين رقائقها الأشواك بسبب هذه الحرية المتاحة والمستهدفة ، وهي التي تركت المجال حرا لمن رغب في التمتع والسباق في مضمارها الواسع والطويل ، وهي ملاذ الأحزاب والمشردين ، وهي المنتهكة شرقا وغربا من قبل من استثمر فسحها الحر ، وهي الضحية الأكبر لفدح لا يمكن أن يتصوره أحد ، هي بلد الأحرار والخونة في آن ، بلد أكبر من بيروت ولبنان والوطن العربي برمته ، وما انفجار المرفأ إلا بوح فاضح لمؤامرة سكنت واستقرت في رحم السر والحفر لتبقي على كل ما تبقى من هذه الحريات ..
إن البسام في صمته هذا ، ينأى بعرضه عن المحلية والآنية والراهنية ، ليصبح هذا العرض بانفجاراته وتشظياتها الديناميتية المرعبة ، شاهدا على مؤامرة ساهم في حياكتها ونسجها دول وأحزاب ومثقفون مخصيون ومازوخيون نتنون ، ليصبح الرماد الذي خلفه الإنفجار الكارثي البلانشوي فضحا سافرا لمؤامراتهم ومآربهم الخبيثة .. 
إن أعمال البسام  تتكيء على البحث الدقيق والمضني في تفاصيل الجريمة برؤية معاصرة يكتب لها الخلود بوصفها أعمالا لا تقف على الراهن العابر فحسب ، بل تتجاوزه ، هو هكذا في سقراط ومؤتمر هاملت وآي ميديا والعرض الذي نحن بصدده ( صمت ) ، إنه البسام بوصفه محققا في مسرحياته ، إذ أغلب مسرحياته تعتمد التحقيق الفاضح والذي يكشف الجرائم ويعريها بمبضع جراح ماهر مبدع ، إنه المختلف مع نفسه ، فنص صمت قصيدة نثرية أشبه بنشيد من ملحمة الأوديسا ، نص نثري بامتياز ولكن العرض يفوقه شاعرية وبلاغة وحضورا لأنه الكتابة الأخرى للنص المشاكس للنص المكتوب ، كذلك البسام صوت آخر في صوت بطلته حلا ومحفز آخر في تدخلاته لأحداث جديدة لحظية في صمته ، فهو ، هي ، الممثل ، الممثلة المتمرد الضحية في نفس الوقت ، هو المدعى عليه وهو الدفاع وهو الضحية في الوقت نفسه ، إنه يدشن عرضه وفق اشتغالات فنية وذكية ومخاتلة .
إن الحفر في لجج الصمت كالحفر في غياهب المجهول ودياجيره ، فالمتحدث في النص إنسان شاعر مفكر مجهول قد يكون البسام أو بيروت ، خاصة وأنه يتكيء على مقاطع وبحوث ومقامات متداخلة الأحداث ، إنه صمت أشبه بمصير الفنان روتكو الأمريكي الذي انفجر على النموذج التقليدي ومن ثم لاذ بصمت قهري حتى أنهى حياته منتحرا في محترفه بمدينة نيويورك في 25 شباط 1970.. ياله من صمت فادح مفجع ..  
إن البسام يشكل صمته الفادح من خلال ذهابه البحثي للنص المثقوب ، للنص المقترح الذي يقترح قراءات جديدة ومتعددة على النص الخام الذي دشنه على الورق ، لنكون بذلك أمام اشتغالات فنية لا تكف عن اختبار تفاصيله وفراغاتها ، خاصة عندما يتحول الصمت إلى حالة بيلوفونية تتقاطع فيها الأصوات والأجساد والرؤية في ذات واحدة تتشظى ، بل إلى شظايا نرى جزيئاتها الدقيقة في الأداء .. في  الإنفجار ، إنه أداء متشظ غير متشابه جسدا وصوتا ورؤية . 
هي هكذا أنشودة صمت الفنانة حلا عمران ، الصوت الجسد الرؤية ، والتي تمكنت بمفردها أن تشغل فضاء العرض برمته ، لتصبح بؤرة العرض الضوئية الأساسية ، والتي تمكنت وباقتدار من أن تكون العرض كله خارج إطار المشاخصة المونودرامية المعهودة ، حيث الفدح كله ، حيث الذوات واشتباكاتها الحادة في كل مشهد وموقف ، وحيث الأزمنة بتداخلاتها الصعبة العصية ، وحيث الصرخات المضاعفة المكتومة لدى الشعوب ولدى من يعيش هذه الحالة ، وحيث البوح والشجى والمتاهة ، وحيث الأغنيات الشجية المقتولة محاولة للبوح بصرخة عاجزة ، وحيث التمركز في مكان تتعدد فيه ذواتها الانشطارية المقهورة ، وحيث تتحول في لحظات صعبة إيروتيكية إلى زنجية الشاعر الفرنسي شارل بودلير والتي تغنى بها في ديوانه ( أزهار الشر ) ، وحيث تتلو كارثة المدانين في هذه الفاجعة لتشتعل الملابسات في كل المشاهد ، وحيث تتقاطع الذوات مع ذوات أخرى تصاحبها البوح ، وأعني الموسيقى الجسد الفعل الذوات الفاجعة الصمت ، فهل كانت الموسيقى بمعزل عن تلك العبثية القهرية التي تولول وسط دمار الشاهد على الخراب والصمت في آن ؟ 
إن الموسيقى .. المؤثرات في عروض البسام تخضع لبحث معمق دقيق بوصفها نصا اشتباكيا مع نص العرض ، تخضع لاختبار صوتي يتعالق مع الجهد البصري المبذول في تأثيث العرض السينوغرافي والأدائي ، هي ليست آلات موسيقية بمعزوفات ميلودية بالشكل المتعارف عليه ، بقدر ما هي مادة خام أشبه بالمادة التدويرية التي تصنع بما يتلاءم وروح العرض ، لتأخذ حيزها المتناغم مع كل تفاصيل العرض باعتبارها جسدا وصوتا وروحا ، ولتندغم في حيز خر أوسع أشبه بحيز الجاز في ارتجالاته الحرة الخلاقة ، كما أنها تتشكل في حيز الاشتغال اليومي كما يبدو للعرض ، وليست مادة جاهزة تُركب بعد اكتمال الحيز الأدائي للممثل .
هي واحدة من مقتضيات سيمفونية العرض المسرحي لدى البسام ، هي صوت المؤلف وأضداده ، هي صوت المؤدي ونقائضه ، هي الشاهد والجريمة والملابسات والأغنية والدافع والمرافعة ولحظات التوتر والقلق المصاحبين لفعل العرض المسرحي .
وبالموازاة يتم الاشتغال على أداء المؤدي وفق هذا الاختبار ليصبح المؤدي نفسه جزءا لا يتجزأ من هذه المنظومة الموسيقية الحية ، لنكون بذلك أمام مادة حية مبتكرة تشكل أصواتها ودواخلها وفق رؤية المخرج للعرض ، لذا حين نتابع جهاز الموسيقى والمؤثرات نلحظ مساحة التفاعل الأدائية في اشتغالاتها المواكبة للعرض ، ويعتبر فريق البسام الموسيقي فريقا أدائيا فريدا في مسرحنا العربي ، بل قل نظيره على الصعيد الدولي . 
وإذا وقفنا عند فضاء العرض الذي تم الاشتغال عليه وتأثيثه بالضوء خاصة ، سنلحظ أنه متعدد الاحتمالات من حيث مساحة الاشتغال الأدائي ، ففضاء العرض كان كبيرا أو واسعا أو صغيرا أو دائريا فإنه يحتمل الحدث البؤرة ، حيث لا تتجاوز حدود الأداء بقعة ضوئية صغيرة سُلطت بعناية شديدة على المؤدية وتمت دراسة كثافتها بحيث تلتئم وفسح الدخان الذي تتعدد دلالاته ووظائفه في العرض ، بقعة وكما لو أنها قعر تنور يحتمل جسدا واحدا فحسب . 
هل كان الضوء بسينوغرافيته البؤرية المكثفة المعبرة بمعزل عن هذه الذوات الانشطارية النووية الأخرى ، الجسد ، الصوت ، الرؤية ؟ .
إن البسام مخرج باحث مؤجج لأسئلة الشيطان في عرضه وفي رؤوسنا ، مخرج يقود عروضه المسرحية بكتيبة الرؤية الباحثة في الرؤية ، لذا تستحق عروضه التأمل كثيرا وطويلا ، فمن يبحث في الصمت لا يجني سوى الأسئلة الفادحة ، إنها كتابة الرؤيا اليوسفية التي قرأ البسام من خلالها حال لبنان والعرب ما قبل التطبيع وبعده ، ما بعد لبنان والعرب .. 
وهنا يذكرنيي صمته بمسرحية ( فهمتلا ) للمخرج المفكر توفيق الجبالي ، طبعا مع فارق المعالجة والرؤية ، بين شاهد على الجريمة دونما أي كلام وبين صمت يجوس ويسرد واقعة الجريمة وفدحها ، حيث كان يلزم ( صمت ) البسام بعض صمت لنقرأ من خلاله ما لم تجد به قريحة الشاهد على الصمت بالكلام ،  ألا ينبغي الوقوف على جريمة الصمت الصادرة من مرتكبي الجريمة والفجيعة في الداخل بدلا من الإدانة لصمت الخارج ؟ ..
مازال الرماد يتساقط .. آخر جملة لحلا بمسرحية ( صمت ) 
فهل سيظل حضور الفاجعة ماثلا بدخانه الرمادي الكثيف أمام أعيننا ورؤوسنا حتى صمت آخر ؟ ..
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون