قراءة في العرض الجزائري "المفقودة" المشارك في مهرجان صيف الزرقاء المسرحي.
2023 ,15 أيلول
المخرج خالد لويز ومدير الندوة احمد ابو شاويش والكاتبة نور الرواشدة
* نور الرواشدة:صوت العرب – الاردن.
ضمن عروض الدورة 21 لمهرجان صيف الزرقاء المسرحي، عرضت المسرحية الجزائرية" المفقودة" للكاتب الفرنسي ماكس رينيه مِن إخراج طارق لويز، تمثيل جمال بدوي وعبدالله بو معيزة. سينوغرافيا هشام بردوك، إضاءة وصوت صلاح الدين بن خليفة. 
اختار طارق لويز نصًّا عالميًّا، لكاتبٍ لهُ باع في كتابة النصوص المسرحية المتمرّدة على الواقع وبالغالب بأسلوب الكوميديا السوداء، والواقعية في الكتابة ترتبط بشكلٍّ مفروغ منه بالبعدين الاجتماعي والسياسي مكانيًّا وزمانيًّا ولابدّ من هذا الارتباط بذات البعدين في حال التمرّد أيضًا أو بتعبير أدق الرّفض. 
قرأتُ عملين لماركس رينيه وثالثهما الزبون الصعب (المفقودة) قرأته منذ يومين، وشاهدته على شكل عمل مسرحي ليلة أمس. وبعد العرض مباشرة وكوني أحمل مسؤولية التعقيب على العرض بحثت عن العمل، وجدت أنّه عربيًّا قد تمّ الاشتغال عليه مسرحيًا من قبل أكثر مِن مُخرج، شاهدتُ عرضًا من العروض كونه كان متوفرًا على الانترنت ليس بهدف المقارنة بالطبع بل حتّى أصل لفهم طارق لويز الخاص وتتضح لي رؤيته الإخراجية وطرائق معالجته للنصّ الخاصّة. 
في هذه الورقة سوف أنطلقُ مِن تساؤلين،  التساؤل الأوّل: 
هل نجح طارق لويز في جعل النصٍّ العالمي نصًّا محلّيًا من خلال المعالجة الإخراجية؟  والنّصّ العالمي كما نعلم هو النّص الذي ينطلق من الفضاء المحلّي الضيق إلى فضاء العالم الفسيح وتكون هذه الإنطلاقة بوساطة الترجمة بالدرجة الأولى.
أبرز المُخرِج موضوعات النّص وجعلها موائمة للوجه المحلّي ويتجلّى ذلك مِن خلالِ سُترة الجنرال التي ارتداها جمال بدوي والتي كانت من ضمن المفقودات وفي ذلك عكس ذكي للفهم الجمعي للشخصية الرمز. وفي الغالب تخلَّد شخصية الرمز العكسري أو الثوري أكثر من غيرها.
بشكلٍ عام النّص له أبعاد أكبر بكثير من المذكورة نصًّا، أكبر من قبعة مفقودة أو حقيبة مفقودة أو عضو آدمي أو جثة آدمية كاملة، لو خلقنا عالما موازيًّا للنّصِ لوجدنا أنّ النّفس البشرية تظلّ متعلّقة بكلّ ما تفقده ولا تعرف إلى أين انتهى، وتظلّ تسأل عنه، حتّى الصّوت ألا نتسائل إلى أين يذهب؟ في أحد نصوصي امعنت كثيرا في ذلك وتخيّلت أن للصوت مدافن في الهواء وكلامنا المفقود كلّه موجود في هذه المدافن، بشكلٍّ آخر للكلام جثة. 
وحدها سترة الجنرال حيّة كدلالة للرمزِ، فور ارتداء بدوي لها تحوّل فورًا لتلك الشخصيّة الحيّة جوانيًّا وتقمصها بشكل بديهي، لم يكن بدوي الذي يلقي الخطاب ولا بو معيزة الذي اتخذ هيئة عسكرية أقلّ خلفه التي تؤيد كانت الشخصية النمطية الرمز في الفهم الجمعي العربي هي التي تفعل هذا وذاك. 
وقد عزز هذ المشهد ابتعاد طارق لويز عن جعل الشخصية المسؤولة عن المفقودات شخصية عسكرية واستبدالها بموظفٍّ ظهر لنا وكأنّه في دائرة مدنية. 
والنّص بطبيعته مفعم بالرمزية وهذا الأمر يجعله من النصوص المطاطيّة التي من السهل أن تأخذ أي قالب محلّي ولكن في حال كان المخرج متمكّن من أدواته.
التساؤل الثاني:
في أيِّ عرضٍ مسرحي المخرج موجود على الخشبة، قبل العرض هو بمثابة اليد التي تقف خلف كلّ الموجودات والمحسوسات في العمل، ابتداءً مِن النّصِ وانتهاء بآخر ايماءةٍ ضوئية أو صوتية على الخشبة. وعند العرض تنسحب يده وتظهر روح فهمه الإخراجية.
هل كان لويز موجودًا بشكلٍ كافٍ على الخشبة؟ 
في النّصٍ اشتغالات ظهرت بشكلٍ بسيط من حيث التقديم والتأخير والإضافات الإعداديّة، وجاء التميّز في قفلة العمل، الرّقصة التعبيرية أعطت بعدًا للعمل حيث أنّها فتحت باب التأويلِ على مصرعيه كونه شكّلت حالة صراع نفسية تعيشها الشخصيّة مع ذاتها ومع المفقودة.
دلالة العنوان عتبة العمل الأولى (المفقودة) كدلالة صريحة على مؤنث في عمل خلى تماما من أيّ عنصرٍ نسائي موجود كمجسّم حيّ على المسرح، كان وجودها جثّة غير مكتملة ودون ملامح واضحة واحضار الجثّة على المسرح منذ بداية العمل كان بمثابة احضار رمزية المرأة وكون الجزء الأبرز المفقود في الجثة هو الذراع فهذا أيضًا يعبّر عن ماهيّة كينونتها في المجتمع وايضًا قد يكون رمزًا للشريك الذي قد يكون في لحظة ما هو المفقود والفاقد في آن واحدة. 
من زاوية أخرى من ممثل لآخر تختلف القدرات الفنّية الأدائية وفقًا للشخصية وللخبرة والموهبة، ويعزز كلّ ذلك سلطة المخرج التي من خلالها يقدر على ابراز قدرات الممثل، الممثلان كانا مميزان في دوريهما. 
 ولكن شعرت بعد انتهاء العرض أنني لم أشعر بشيء عميق! وصلتني الحالة كاملة أعجبت بالعرض ولكن لم أضحك بالرغم من أن العمل من أعمال الكوميديا السوداء التي يجب أن تجبرني على أن أضحك أو أبتسم والحزن متجلٍّ في نفس الوقت في قلبي حسرة على واقع معاش يتقاطع مع همّنا المشترك.
 كما أنني لم أحزن بالرغم من أن للحزن مساحة كافية كان من الممكن أن يجعلني المخرج شريكا بها، كذلك لم أشك ببطل العمل بكونه يدّعي فقدان زوجه، تفاعلت مع الرقصّة وانسجمت مع سينوغرافية العمل مع تسجيلي بعض الملاحظات عليها. كما أنني وددت لو أخذت الموسيقى التصويرية مساحة أكبر في العمل.
ممثلون ونص وجمهور ومخرج لابدّ أن يفرض وجهة نظره لتحقيق الربط المطلوب بين هذه العناصر الثلاثة من خلال تنفيذ رؤية إخراجية شاملة وتحويل المكتوب لعنصرٍ حي على الخشبة، أعتقد أن طارق لويز كان بإمكانه أخذ العمل للمزيد من التأويلات التي بإمكانها خدمة العمل على المستويين المادي واللفظي. كثيرا ما يكون المخرج الدراماتورج الخفي الذي قد يقف خلف دراماتورج آخر وقد يقف منفردًا مستخدما كل أسلحته. 
لو تظلّ دائما في نفس المتفرّج والناقد وكلّ مشتغل في المسرح وال لو التي عبرت عنها هنا بطريقة أو بأخرى لا تغيّر من حقيقة أن المخرج من وجهة نظري هو مخرج مبدع تمكّن من عناصر العمل كاملة.
بالنسبة للمثلين، جمال بدوي ظهر كممثل متمكّن يمتلك مهارات عالية من خلال كل المُرسلات التي أرسل لنا منها طبيعة الشخصية الصوت ولغة الجسد والحركة على المسرح كان أنموذجا حيًّا للنفس البشرية المرتبكة والباحثة.  كما أشيد بعبدالله بو عنيزة الذي اكتسب البرود الذي يليق بالعمل وبالشخصية وهذا البرود هو الحال الذي يصل إليه كلّ من هم في المهن الصعبة  نحن كمطلعين عليها غير ممارسين لها نشعر بمشاعر متضاربة من الخوف والقرف والحزن والربكة والتعاطف. لقد جسد الاعتيادية على العمل خير تجسيد. كما هو الحال للذين يغسلون الموتى ويحفورون القبور ويشرحون الجثث وصلوا لعدم الشعور الجواني بوصف ما يفعلونه مهنة اعتادوها ليس إلا. وكذلك الأمر للقتلة خاصة أولئك الذين يبرزون كجماعات في الحروب كممارسين لمهنة تدربوا عليها ليس إلّا. 
بالعموم شخصية بو عنيزة بمثابة رسالة مفادها: حتّى الألم يصير نكتة مكرورة لا تثير فينا شيئًا لو اعتدناه. 
أخيرًا 
حمل هذا العمل مجموعة من الرسائل النفسية والفلسفية والإنسانية، أختصرها بمقولة لبريشت (لا تخف كثيرا من الموت، بل من الحياة الناقصة). 
*كاتبة وشاعرة اردنية.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون