عدنان مدانات:صوت العرب - الأردن.
ضمن عروضها الأسبوعية المنتظمة تعرض لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، يوم غد الثلاثاء الموافق 12 تشرين الأول، الفيلم التونسي "عرس القمر" للمخرج الطيب الوحيشي، وذلك في تمام الساعة السادسة والنصف مساء بقاعة السينما في المؤسسة.
ثمة أفلام تنتمي إلى السينما العربية الجديدة ولكنها لم تنل حظها من الاهتمام النقدي او الإعلامي لأسباب عديدة منها أن مواضيع هذه الأفلام قد تكون تغرد خارج سرب المواضيع المفضلة في وقت من الأوقات ، من نوع مواضيع الهجرة والهوية او حرية المرأة وقضايا الحب والجنس أو القمع السياسي و الإرهاب الأصولي وغيرها من المواضيع التي تهتم بها الصحافة السينمائية وتفسح لها المهرجانات السينمائية أبوابها وتمنحها الجوائز إلى أن يغيبها النسيان بعد انتهاء الظرف الذي تسبب بالاهتمام بها . من هذه الأفلام المهمة التي لم تلاقي الصدى الإعلامي المناسب ، على الأقل في الصحافة العربية ، الفيلم التونسي "عرس القمر " الذي أتيحت لي مؤخرا فرصة مشاهدته .
يشكل فيلم " عرس القمر " ( عام 1998 ) ، للمخرج التونسي الطيب الوحيشي ، تجربة مميزة في السينما العربية الجديدة من حيث الإخراج وكذلك من حيث السيناريو الذي يصور بطريقة ذكية أزمة جيل الشباب التونسي النفسية والاجتماعية . وإلى حد كبير يمكن اعتبار أن الفيلم ينتمي إلى أفلام الشباب من ناحية الموضوع وطريقة الإخراج .
أبطال الفيلم أربعة شبان وفتاة في حدود العشرين من العمر ، من فئات اجتماعية مختلفة ، يرتبطون بصداقة حميمة فيما بينهم ويقضون أوقاتهم معا يركبون الدراجات النارية يجوبون الشوارع و المناطق المحيطة بمدينتهم الواقعة قرب شاطئ البحر. تكثر في الفيلم مشاهد الشبان يقودون دراجاتهم النارية بما يذكر بمشاهد مماثلة في العديد من الأفلام الأمريكية او الأوروبية التي تدور مواضيعها حول مشاكل الشباب .
ولكن الفيلم مع ذلك ، لا ينتمي إلى ما يمكن تسميته بأفلام الحركة والإثارة التي تقوم على الصراعات بين فئات الشباب بل هو يستخدم هذه المشاهد ليجعل من الحركة الخارجية معادلا بصريا يعبر عن الانفعالات الداخلية لأبطاله .
ويبدو للوهلة الأولى أنهم يعيشون حياة لاهية غير مبالين بشيء . لكنهم جميعا يشتركون بالمقابل في حالة الاغتراب التي تفصلهم عن أهاليهم وفي الحزن الشفيف الذي يغلف مشاعرهم رغم مظاهر اللامبالاة التي ترافق تجوالهم الصاخب فوق دراجاتهم النارية . إنهم يجسدون جيلا ضائعا عاجزا عن تجسير الهوة بينه وبين جيل الأهل .
في بداية الفيلم يعود الأربعة على دراجاتهم النارية في وقت متأخر من الليل لإيصال الفتاة إلى منزلها ويعبرون بدراجاتهم إلى داخل ردهة المبنى ولا يبالون باحتجاج الجيران الذين أيقظتهم الضجة من النوم .
لا يسعى الفيلم لإدانة إي من الجيلين ولا يحاول ان يتخذ موقفا من أي منهما ، كما لا يدخلنا سيناريو الفيلم في تفاصيل هذه الإشكالية بين الجيلين بل يكتفي بتقديمها ، عبر مشاهد قصيرة ، كمعلومة عن واقع قائم .
مثلا ، أحد أبطال الفيلم الشباب يعيش مع والده الثري المتنفذ والمتزوج من امرأة شابة ولكنه يرفض كل محاولات والده للتقرب منه ويتهمه بأنه لا يشعره بعاطفة الأبوة ، ومع أن هذه المشكلة قد تكون موضوعا لفيلم اجتماعي بحد ذاتها إلا أن السيناريو لا يهتم بتعريف المتفرجين على تفاصيلها او خلفياتها ، لا يهتم بعرض الأسباب بل يكتفي بالنتيجة فنحن نعرف أن الجفاء قائم من قبل الابن ولكن لا نجد ما يبرره من قبل الأب او حتى زوجته .
وتستمر حياتهم على هذا المنوال إلى أن تحدث ذات يوم مشادة فيما بينهم أثناء وجودهم ليلا على سطح السفينة ، مشادة عادية عرضية بين أصدقاء حميمين حدثت نتيجة توترات نفسية و كان يمكن ان تنتهي في لحظتها ، لولا أنها كادت تتطور إلى مشاجرة تدخل أحدهم لإيقافها فانتهت بمقتله طعنا بالسكين بطريقة غير مقصودة .
وإذ يصاب البقية بالهلع يقررون إخفاء الجثة ودفنها داخل مغارة في وسط جزيرة صغيرة معزولة على بعد من شاطئ البحر .
لا يستخدم المخرج هذه الحادثة للتحول نحو شكل الفيلم البوليسي ، بل يجعل منها وسيلة لكشف مزيد من أزمتهم الوجودية ولذلك لا نرى البوليس يقوم بالتحقيق بعد انكشاف مكان الجثة ولا نتابع عملية البحث عن الجناة .
وحتى الأب الثري المتنفذ والذي بدأ يشك في ابنه وأصدقائه ويراقبهم ويحقق في الأمر ، لا يفعل ذلك إلا لفهم شخصية ابنه و لتخوفه من أن يكون ابنه مجرما .
ولا يستخدم المخرج هذه الحادثة لإدانتهم بل يستفيد منها لكشف المزيد من تناقضاتهم الداخلية . وثمة مقطع مؤثر يكشف معاناتهم وأزمتهم الداخلية عندما يضطرون للمشاركة الفعالة في مراسيم الجنازة ومواساة الأم الثكلى .
ثمة حكاية أخرى تتداخل مع حكاية الجريمة وتكشف الجانب الآخر من شخصية أولئك الشبان ، الجانب الذي يؤكد على إنسانية دواخلهم ورغبتهم في تقديم السعادة للآخرين . وهي حكاية تنقل الفيلم من السرد الواقعي للحكاية إلى الإضافات على الحكاية ذات البعد الشعري . يعرفنا الفيلم على شخصية رجل يعاني من بعض التخلف العقلي و من غرابة الأطوار ويعيش وحيدا على شاطئ البحر يتنقل بين كوخ و سفينة مهجورة راسية على الشاطئ ويقضي جل وقته صامتا يتأمل الأفق البعيد ، هي بيته الذي يشكل ملاذا للأصدقاء فيلتجئون إليه وإلى صاحبه الذي يعاملونه بمحبة و كصديق يشعرون بتعاطف شديد معه .
وذات يوم يقررون أن يزوجوه و يجعلوه سعيدا وينجحون في ذلك عندما يعثرون على امرأة جميلة وحيدة في خريف عمرها صامتة أبدا ، تعتاش من البيع على قارعة الطريق وتتسم ملامحها بالطيبة والوداعة ، فتقبل بالزواج . ويقيمون في الليل عرسا صاخبا وفاخرا للاثنين داخل مصنع يملكه والد أحدهم فيأكلون ويشربون ويرقصون وسط الأنابيب والخزانات المعدنية والسلالم الحديدية ، و بعد ما ينتهون من الاحتفال يقودانهما إلى الخارج قرب البحر حيث يجهزون مكان إقامته الخرب ليصبح لائقا لهذا الزواج الجميل . و لأهمية هذا الزواج بالنسبة لموضوع الفيلم ، على الأغلب ، اختار المخرج عنوان " عرس القمر" له .
مع اقتراب الفيلم من نهايته يصبح الزوجان المحور الرئيسي لبقية الأحداث وكأن المخرج يجعل منهما وإذ دخلا في مشروع حياتي جديد مفتوح على الأمل والمحبة ، بديلا يعوض عن حالة الضياع التي يعيشها أبطال الفيلم من الشباب . وينتهي الفيلم بلقطة استعراضية ليلية للمدينة الواقعة قرب الشاطئ .
ومن الواضح ان الفيلم لا يستخدم الأحداث لذاتها بل يستفيد منها لتعميق الفكرة التي يطرحها وللتعبير بصدق عن المعاناة النفسية لأبطاله الشبان . وينجح المخرج في إيجاد المعادل البصري للمعاناة النفسية لشخصياته عن طريق الاختيار الذكي لأماكن التصوير ، فباستثناء مشاهد قليلة تم تصويرها داخل المنازل فإن معظم مشاهد الفيلم مصورة ، إما على الطرقات وسط هدير الدراجات النارية ، او في الأماكن المهجورة خارج المدينة أو فوق رمال الصحراء القريبة من البحر ، او داخل المغر والسفن الخربة وداخل أبنية المصانع الفارغة.
وبعامة فإن الفراغ والصمت يتحولان إلى وسيلة فنية تعبيرية وإلى أسلوبية سينمائية تذكرنا ، بخاصة، بسينما المخرج الإيطالي الكبير مايكل أنجلو أنطونيوني وبخاصة في أفلامه التي أخرجها في الستينات من القرن العشرين ومنها فيلم " المغامرة " الشهير الذي يبحث فيه أبطاله عبثا داخل جزيرة فارغة عن صديقة لهم اختفت فجأة أثناء رحلة كانت تشاركهم فيها ، او بفيلمه الذي أخرجه في السبعينات وهو " نقطة زابرينسكي " ، حيث يتوه بطلا الفيلم في الصحراء .
تميز فيلم " عرس القمر " أيضا بالأداء البارع والمعبر لجميع ممثليه والذين احسن المخرج اختيارهم ، وهم ، باستثناء الممثل التونسي المعروف هشام رستم ، ليسوا من النجوم المعروفين .
كما يحسب للفيلم استخدامه للهجة محلية ولكن واضحة ومفهومة بسهولة في معظمها للمشاهدين العرب متجاوزا بذلك أزمة الإيصال التي تعاني منها معظم الأفلام المغاربية عند عرضها في الأقطار العربية الأخرى .