كيف يمكن أن تواصل حالة من العيش في اللحظة الراهنة، دون ان يكون لظلال الماضي، او قلق المستقبل أي تأثير على حياتك؟ هذا مايقدمة المخرج الالماني "فيم فيندرز" في فيلمه "ايام مثالية"، حيث يفتح الفيلم على غرفة فقيرة الاثاث، في منطقة فقيرة، ومهنة يتأفف منها الكثيرين، وعلى شخصية"هيراياما" (كوجي ياكوشو)، الذي يعيش حياته في دائرة منتظمة، دون أن تبدو عليه ملامح الاعتراض، انما الرضى بما يقوم به.
يفتح الفيلم على مشهد يتكرر لاحقا، حيث يصحو من نومه، ليرتب فراشه، ويجهز نفسه للذهاب الى عمله، وخلال رحلته بسيارته العتيقة، يسمع الاغاني من اشرطة قديمة، وفي هذا المشهد تظهر له الشمس من خلف الاشجار، ونورها الذي يتسلل من بين اغصانها، فيلتقط هذه اللحظة بروحه ووجدانه، وتبقى مؤثرة عليه، وكأنه اكتشف نفسه، وأنه يعيش من جديد، رغم أننا لا نعرف عن حياته السابقة شيئا، سوى عندما جاءته أخته بسيارتها الفارهة مع سائق لها، في دلالة على أن "هيراياما" ينتسب الى عائلة ثرية ارستقراطية، لكن المخرج لم يذهب الى ماضي الشخصية، تماهيا مع تحولها وانعطافها وقرارها بان تعيش اللحظة الراهنة، وحتى لايشوش على المتلقي في تتبع الشخصية، لأن "الاّن" هو ما يهمه، دون نبش في الماضي، ولا تفكير بالمستقبل.
"هيراياما" لم يعتزل الحياة، ولم يخضع لموقف أيدولوجي، ولم يتصدى أو يحتج أو يعلن رأيه في السلوكيات الاستهلاكية، وحالة التهافت والقلق، والإيقاع السريع لحياة الفرد والمجتمع، إنما هو يعيش "لحظته" بكل الاجتهاد والانتماء والنزاهة، فهو يقوم بعملة الروتيني اليومي في تنظيف المراحيض العامة، بكل الاخلاص والشغف والحرص، ويتعامل بروح ايجابية مع من يلتقي بهم، ويزرع الفرح قدر الامكان في محيطه، كما في تعامله مع صديقة زميله في العمل، أو مع ابنة شقيقته، أو مع الرجل المريض بالسرطان، أو مع زبائن المطعم الذي يرتادة، فهو رغم كل ما يبدو عليه من اعتزال الحياة ، إلا أنه يحس بأن هذا ميلاد جديد له، ورغم تخلصة من كل اثقال الماضي، إلا ان ذلك لم يلغ انتمائة لعائلته أو من يجدهم في حياته.
تتجلى سعادة هيراياما في تلك اللحظات التي يرى فيها نور الشمس قادما من خلف الأشجار، وهو يحرص للحصول على لقطة لهذا المنظر بكاميرته العتيقة، ويقوم بتجميعها ويضعها في صناديق مرقمة، وكأنه يؤكد على أن حياته هي اللحظة التي يعيشها الآن، وهي ذاكرته المتكررة، فكما يشاهدها في الواقع، ويحفظها بصورة فوتوغرافية، فإنها تأتيه، وبشكل متكرر، في أحلامه.
ان هذه الحياة المتكررة بالنسبة اليه ليست روتينا، ولا بلادة في المشاعر، انما الاشياء البسيطة تمثل له حالة من الدهشة والجمال، ورغم أنها تحدث معه كل يوم، إلا أنها تبدو وكأنها للمرة الاولى، ففي الوقت الذي يعيش من حوله في حياة مليئة بالرغبات وأدوات العصر لا تحقق للناس السعادة، فإن ايقاع حياته الهاديء تماما، يجعله متأملا في كل التفاصيل الصغيرة حوله، مثل انتباهه لتلك النبتة الصغيرة تحت الشجرة، وتعامله معها برقة، واضافتها الى مجموعة من الازهار في بيته، ليستكمل معها الطقس اليومي في سقاية أزهاره البسيطة بفرح غامر.
إنه يرى ما لا يرى الاخرون المطحونون في دوامة الحياة، يعيش حالة من السلام الداخلي، والصفاء الروحي، والاستغناء عن لغو الكلام بايمائة أو ابتسامة، ونظرته البعيدة في الافق، دون أن تؤثر عليه النظرة الدونية من بعض الناس له ولمهنته، مثل تلك المرأة التي وجد ابنها تائها، وأوصله لها، وعاملته بنظرة احتقار له، او مثل سؤال اخته له "هل فعلا تعمل في تنظيف المراحيض؟"، إن هذا كله لم يؤثر عليه، وحتى الاغاني المشبعة بالحنين لتلك الاماكن، والذكريات، وسيارته وجهاز التسجيل المتهالك والكاميرا القديمة، والكتب المستعمله، كل ذلك لم يزعزع ايمانه بالخلاص الذي وصل اليه، وفي نفس الوقت فهو ليس منقطعا عن ذكرياته، إنما تخلص من الألم الذي يسببه الحنين الى تلك الايام.
ويقدم الممثل" كوجي ياكوشو"، في نهاية الفيلم، مشهدا عبقريا، حيث المشاعر المختلطة، والممتزجة مع ملامحة وابتسامته ودموعه، لكن دون يستدير نحو حياته قبل التنوير، وكانه كان يردد مع ابنة شقيقته: " الاّن هو الاّن... و المرة القادمة هي المرة القادمة".