2024 ,19 آب
د.سميرة ابو طالب:صوت العرب – القاهرة.
بالرغم من أنها ليست المرأة الوحيدة التي تعمل في مجال المونتاج السينمائي، إلا أنها تتميز بحس مرهف جعلها واحدة من أصحاب التجارب المميزة على الصعيد المصري والعربي؛ وقد جاءت تلك التجارب على اختلافها لتؤكد فهما واعيا بالثقافة التي تعبر عنها، وإدراك الفروق البسيطة بين كل ثقافة وأخري، بل تلك الفروق داخل البلد الواحد، وكيف يمكن التعبير عنها سينمائيا بشكل يوضح تلك الفروق ولا يتنافر معها، على النحو الذي نراه في الفيلم السوداني "وداعا جوليا" للمخرج محمد كردفاني، الذي يناقش فكرة الانفصال على مستويات مختلفة، وليس على الصعيد السياسي الذي قسّم السودان إلى شمال وجنوب، فكان هذا الفيلم بمثابة البوابة التي دخلت منها هبة عثمان في رحلة كشف عن ثقافة وجغرافيا هذا البلد، وطبيعة العلاقات التي تربط سكان الشمال والجنوب، وتلك الأغاني التي ترتبط بوجدانهم، والأزياء وكيف تعبر عن صفات شديدة الارتباط بهم، بل كان بوابتها أيضا للدخول إلي الكشف عن الحراك الصوفي للسودانيين ومعرفة الطرق الصوفية المختلفة. كل هذه التفاصيل هى المدخل الحقيقي الذي يمكنها من الوصول بالفيلم في نسخته النهائية إلى الهدف من إنتاجه.
هي صاحبة الحكي الأخير، أو آخر سيناريست للفيلم كما عبرت عن نفسها في تلك الندوة الثقافية التي نظمها مركز الثقافة السينمائية بالقاهرة، لتطرح تجربتها في التعامل مونتاجيا مع أفلام تنتمي لثقافة غير ثقافتها، وفي الوقت نفسه تحافظ على شاعرية وخصوصية البعد الثقافي لكل تجربة، وقد كان السؤال المفتاحي الذي تطرحه على المخرج في كل تجربة هو: ما الهدف من وراء طرح فكرته؟ ثم تأتي مرحلة التعرف البصري والسمعي على ثقافة البلد التي يعبر عنها الفيلم، والذي يمثل ركيزة أساسية تنطلق من خلالها في معايشة هذا العمل أو ذاك.
فيلم "المرهقون" للمخرج اليمني عمرو جمال، كان التجربة الأكثر تحديا أمام هبة عثمان؛ ارتباطا بطبيعة الفكرة التي يعبر عنها، وكونها تتعلق بالوضع الاقتصادي المأزوم في اليمن، فضلا عن اختلاف تركيبة اليمن باختلاف المناطق والقبائل، فكان لابد من نقاش طويل ومحاولة لفهم المشكلة أو معضلة الفيلم السينمائي التي يطرحها من خلال قصته، يضاف إلى كل ذلك صعوبة وصول المادة السمعية والمصورة التي تكشف عن طبيعة هذا المجتمع من اليمن وإلى مصر، وهي التحديات التي شكلت دافعا قويا أمام هبة عثمان لخوض غمار تلك التجربة وإثبات قدرتها على استعياب تلك الثقافة والتعبير عنها، بل وإبداء رأي في وضعية الشخصيات ومساحة وجودها في النسخة النهائية للفيلم، وهو ما حدث مع إحدى الشخصيات الموجودة في فيلم المرهقون، والتي رأت أنها تستحوذ على مساحة كبيرة في الفيلم، رغم أنها غير مؤثرة في الأحداث، من ثم كان النقاش المشترك مع المخرج لاستبعادها من سياق الفيلم.
إن حالة التوافق والانسجام بين المخرج والمونتير هي ما تعول عليه كثيرا هبة عثمان في تقديم تجاربها، بل تراها الأساس الذي تبني عليه باقي مراحل العمل؛ إذ المسؤولية مشتركة بينهما في تقديم الاختيارات النهائية للقطات وأحجامها وزاوية التصوير والإضاءة وغيرها من مفردات العمل السينمائي، وليس شرطا أن يكون المخرج على معرفة ودراية بأسس المونتاج، وإن كان من الأفضل أن يتوفر لديه هذا البعد، والتاريخ السينمائي قدم العديد من المخرجين الذين بدأوا حياتهم في المونتاج، ثم قدموا أعمالا سينمائية كمخرجين، وقد أضاف لهم هذا البعد ثراءً فيما يطرحونه عبر شاشة السينما، غير أن هبة عثمان في احترافها لمهنة المونتير، ترى أن هذا العمل يملأ عليها حياتها، وتعيشه بكامل تفاصيله، ولا تري نفسها في غيره؛ لذا، فإن تجاربها في السينما وإن كانت قليلة إلا أنها مميزة وتأخذ في الاعتبار جميع التفاصيل المتعلقة بها، وتبدأ في معايشة السيناريو قبل التصوير، وحتى مرحلة الفيلم الأخيرة، وهي في ذلك تسير على خطى رائدة المونتاج السينمائي في مصر" نادية شكري"، التي تنتمي إليها وجدانيا، وترى أن عملها في المونتاج أقرب إلى هذه المدرسة التي أسست لها نادية شكري في التعامل مع المونتاج بإحساسها ومشاعرها، والتأني في التنقل بين المشاهد ومعرفة كيفية الربط بينها.
هكذا، وفي أمسية صيفية في ليل القاهرة، استطاعت هبة عثمان أن تجمع صورا من تجربتها في المونتاج، لتؤكد على خصوصية ما قدمته من تجارب، في حوار إبداعي مع الناقد السينمائي محمد نبيل، وفي حضور كوكبة من المهتمين بالسينما والدارسين لفنونها، لتتكشف مهارتها في الحكي عن تجربتها أمام الجمهور، وما قدمته من "حكي أخير" للفيلم السينمائي من خلال المونتاج، وتحتفظ لنفسها بمكانة متميزة وسط جيلها ممن يبدعون خلف الكاميرا.