د. سميرة أبو طالب:صوت العرب – القاهرة.
تتقاطع مساحة الإبداع في مسيرة الدكتور وليد سيف الناقد السينمائي والأكاديمي المصري الذي أثرى الحياة الثقافية والفنية عبر مؤلفات كثيرة، تراوح مكانها بين الأكاديمي الذي يقدم الواقع النظري حول فنون الكتابة والعرض السينمائي، وتلجأ إلى مزيد من الاستبصارات التطبيقية التي تمنحها قوة الكشف عما يكتنف العملية الإبداعية من تحديات، وما يمكن أن تسجله التجارب المختلفة من مراحل نمو متطورة في حياة الكاتب السينمائي أو الناقد السينمائي، والذي يحل الإبداع عنصرا مشتركا بينهما؛ إذ الكتابة في قدرتها على الإبداع وتقديم رؤية مغايرة، هي ما تكتب شهادة حياة لهذا الكاتب أو ذاك.
من هذا المنطلق، يمكن تناول التجربة الإبداعية للدكتور وليد سيف، التي تنوعت مساراتها، وتعددت اتجاهاتها، فكانت الكتابة للسينما ملمحا مهما في هذه التجربة؛ من خلال الأفلام السينمائية التي كتب لها السيناريو والحوار على نحو ما نجد في فيلم "اغتيال فاتن توفيق 1992" لإسماعيل مراد، و"الجراج1994" لعلاء كريم، وغيرها من الأفلام التي تفاوت حظها في التلقي من قبل الجمهور، أو تلك المعالجات والقصص السينمائية التي أتاحها للقراء ومحبي فن السينما في كتابه"عرض خاص"، لتكون بمثابة الوثيقة الاسترشادية التي تشحذ الذهن وتحفز القدرات، ويمكن أن تكون في درجة من درجاتها ملهمة لتجارب سينمائية تظهر للشاشة من خلال إبداعات جديدة لشباب السينما.
ومحاولة الكتابة عن هذا الملمح الخاص بالإبداع السينمائي لديه لا تتوقف عند رصد تلك التجارب التي قدمها على صعيد الفيلم الروائي أو التسجيلي، وتلك الأفلام التي حفرت لنفسها مكانا متميزا في ذاكرة التلقي العربي والمصري، على نحو ما نجد في فيلم "الجراج 1994"، الذي جسدت مفرداته أعلى معاني التضامن الإنساني مع فئة من الفئات التي تحيا على هامش المجتمع، دون أن يلتفت أحد لمعاناتها، فكان " عبدالله/ الأخرس"، الذي جسّد دوره الفنان (فاروق الفيشاوي) رمزا على هذا المجتمع الصامت الذي يري ويتابع، وقد يتعاطف أحيانا، لكنه يطلق صيحة مكتومة حال وصول الأمر للمأساة.
وما يلفت الانتباه حقا في تلك التجربة، ليس فقط هذه القوة التعبيرية التي يمتلكها الفيلم والقدرة على النظر من زاوية إنسانية لفئة من فئات المجتمع المهمشة، والبحث في ركام حياتها الضائعة عن أمل يبدد ملامح تلك المأساة فحسب، بل فيما كشفه الدكتور وليد سيف نفسه عن تلك التجربة، وكيف تخلقت الفكرة لديه، وكيف طورها هو والمخرج علاء كريم، وما الذي حكم رسم الشخصيات فيها، وكيف تمت صياغة الحوار، وكيف جاء اختيار "النهاية للفيلم" لتحقق هدف الكاتب والمخرج معا في تقديم تلك التجربة، وأيضا حالة الحوار الدائم بين صناع الفيلم، التي من خلالها وصلت الكتابة في هذا الفيلم إلى مرحلة النضج الذي ظهر عليه.
وليس الكشف هنا عن تلك التفاصيل التي لا تظهرها الكاميرا من قبيل الحديث المجاني عن تجربة أثيرة للكاتب، حازت اعجاب الجمهور والنقاد، وإنما هو من قبيل صياغة الخبرة في شكل علمي يمكن الاستناد إليه في اكتساب مهارات الكتابة، وتطوير الموهبة، وهي تفاصيل قلما يتحدث عنها المبدعون؛ باعتبارها سرا من أسرار إبداعهم، ومحرابا، يظل الرمز الأبدي لقداسة ما يكتبون. غير أن تجربة الدكتور وليد سيف الإبداعية في جميع مساراتها، تؤكد أن الإبداع كي يستمر، لابد له من أجيال جديدة تحمل رايته، ولكي يحدث ذلك لابد من نقل الخبرة بشكل أمين، يفصح عن أدق التفاصيل المتعلقة بكتابة هذا الشكل أو ذاك، بل ويعمق تلك الخبرة من خلال ممارسة عميقة لكتابة كل الأشكال، وهو الذي يري أن "التجربة هي التي تصنع الكاتب"، وبدونها يظل مشروعا قابلا للتحقق، أو الاندثار مع مرور الزمن؛ لذا، نجد إلحاحا مستمرا في مؤلفاته – سواء ما كان منها عن كتابة السيناريو، أو كانت عن النقد السينمائي – على أهمية الاستمرار في الكتابة كعنصر من عناصر تجويدها والخروج بها في أفضل شكل يمكن التعبير من خلاله عن الفكرة وسبر أغوارها، وهو في ذلك لا يفرق بين كتابة إبداعية وأخرى نقدية؛ بل إن النقد لديه إبداع يتوازي مع الإبداع الفني، وكما أن للكتابة الإبداعية مقومات لابد أن تتوفر للكاتب، فإن الكتابة النقدية لها مقومات لابد أن تكون الأساس الذي ينطلق منه الناقد كي يستطيع الغوص في أعماق العمل الفني واستخراج لألئه، يأتي على رأسها الثقافة كمقوم أساس يحرك العملية الإبداعية، وتتسع معه الرؤية النقدية التي يصوغها الكاتب.
والسينما بوصفها فنا سابعا استطاع أن يطوع إمكانات الفنون السابقة عليه لصالحه، تحتاج مبدعا يعرف الكثير عن خصائصها، وعن تلك الفروق الدقيقة التي تميزها عن غيرها من الفنون، وتلك الحدود الفاصلة بين فن وآخر، من ثم جاء كتاب" فن كتابة السيناريو" ليضع أمام عين القارئ خارطة طريق تجعله يميز تلك الفروق، ويوثق لبعض النماذج السينمائية التي ضاعت الحدود فيها فاختلط الأمر على مبدعيها: أي الفنون يقدمون؟ ليفقد كل فن ما كان له من تأثير حين قُدّم بشكل منفرد.
ويتوسع دكتور وليد سيف في رصد الحدود الفاصلة، ليس بين كل فن وآخر، بل داخل الفن الواحد، لنراه وهو يؤكد على ضرورة توخي الحدود الفاصلة بين كتابة أنواع السيناريو المختلفة؛ إذ ليس سيناريو الفيلم الرومانسي كسيناريو الفيلم التراجيدي في الكتابة، كغيره من الأنواع الأخرى للأفلام، وقد قدّم نموذج كاتب السيناريو الشهير عبد الحي أديب، ليؤكد على تلك الفروق التي تقبع في كل نوع على حده، والفارق بين كتابته لفيلمه الأشهر "باب الحديد" الذي استخدم فيه أسلوبا سيكودراميا نجح في تأكيد مكانته على الساحة السينمائية، في حين تراجعت مقدرته على كتابة فيلم "حبيبتي " كشكل من أشكال الكتابة الرومانسية، والأمر نفسه نراه في حديثه عن تجربته في الكتابة، وكيف أنه نجح في تقديم الشكل التراجيدي أكثر من الكوميدي الذي يميل إليه، ويجد نفسه فيه.
إن الدكتور وليد سيف حين يتحدث عن "فن كتابة السيناريو" لا يترك مساحة حول هذا الفن وما يثيره من قضايا إلا ويملأها من فيض خبرة تشعبت في مجال الكتابة للسينما وعنها، والتدريس الأكاديمي الذي بقدر ما يصقل الخبرات ويطورها، يستنبط منها الكامن ويبرزه، ويحتفي بكل موهبة في هذا المجال ويري فيها مستقبلا لبقاء هذا الفن مزدهرا، ووعاءً يحفظ للمجتمعات مقوماتها، ويعمل على نمو الوعي بمواطن قوتها؛ فإيمانه هنا بالقضية لا بأفراد، وبالكلمة التي تفتح آفاقا رحبة لهذا الوعي، لا بأصوات جوفاء تحدث ضجيجا فارغا، وبالصورة التي تمتلئ جمالا، لا تلك التي تبحث عن القبح وتسعى لتأكيده.
من هنا، كانت التجربة الإبداعية لديه تتحرك في مسارات متوازية، وتعطي القدر نفسه للتفاصيل كافة التي تتعلق بكل مسار؛ فنراه يقدم للقارئ أيضا "دليل الناقد السينمائي..أصول وكواليس"، ليؤكد على التكامل بين الكلمة المبدعة والكلمة الناقدة، وبين هذه وتلك يطرح العديد من القضايا التي تختص بعملية الكتابة ذاتها، وما يشكل ثقافة المبدع في كل مسار منهما، وأيضا تلك القضايا التي تدور حول كل إبداع على حدة، بل وتأتي مؤلفاته الأخرى لتعمق ثقافة المبدع والناقد حول هذا الفن؛ فنراه يقدم كتابا منفردا حول فن الممثل عبر استعراض مسيرة الفنان نور الشريف في كتاب " نور الشريف.. وجوه بلا أقنعة" ، و " محمود مرسي ..العملاق" ، و " عادل إمام ..أسرار فن الممثل وحسابات الميجاستار"، "أحمد زكي ..قراءة في إبداعاته السينمائية"، " حسن حسني..بين الوجوه والأقنعة"، كما يقدم كتابه الفريد عن مدير التصوير محمود عبد السميع، الذي يركز في مضمونه على ما وراء الصورة، كما يتناول تجارب العديد من الكتاب السينمائيين في مواضع كثيرة من مؤلفاته على نحو ما نجد مع عبد الحي أديب ومصطفى محرم وغيرهم. وهو في كل ذلك لا يقدم قشور السطح فيما يعرض له من تقنيات الكتابة للوسيط وعنه، وما يندرج في إطاره من فنانين ومخرجين ومصورين، بل يتجه إلى العمق، وما وراء الكتابة والأداء والصورة التي تعانق عين المتلقي.
إن الدولة في منحها لجائزة التفوق للدكتور وليد سيف، لم تكرّم فردا في شخصه، وإنما مشروعا إبداعيا تكاملت مساراته لتمهد طريقا تنويريا أمام قوة ناعمة تضرب بجذورها في كل كلمة خطها في مؤلفاته، وسواء كانت العناوين تؤكد على فنية تلك الكلمة كما في كتابه "فن كتابة السيناريو"، أو تقدم أسرار ذلك الفن كما في " أسرار كتابة السيناريو" و" أسرار كتابة النقد السينمائي"، فإن هذه المؤلفات تعد إبحارا في جوف هذه الفنون وفي عقل المتلقي وكل ما يشغله من قضايا، يجيب عن أسئلتها، ويصوغ الخبرة بكلمة إبداعية، فتأتي الجائزة تجسيدا رمزيا عن تقدير تلك المسيرة الإبداعية واحتفاءً بمبدع الكلمة والفن معا حين تكون تلك الكلمة، وذلك الفن طريقا ممهدا لتنوير حقيقي، تقوم عليه المجتمعات وتنهض به.