ما لا يمكن قوله ينبغي رسمه..تنويعات على لوحات "فوزية ضيف الله" .
2024 ,28 شباط
د. أم الزين بن شيخة:صوت العرب – تونس.
"ما لا يُقال ينبغي إسكاته" هكذا كتب الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، وردّ عليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا قائلا :"ما لا يمكن قوله ينبغي كتابته". لكنّ "الطرق إلى ما لا يقال" كثيرة ومتشعّبة، بكاء وضحكا أو شعرا ورقصا ورسما أيضا. ولفنّ الرسم الكثير من الثنايا التي يخطّها نحو أماكن لا تصل إليها لغة الكلام. فهو فنّ لا يتكلّم لغة الحروف، ولا يخضع لقواعد النحو، ولا يدير شؤون الصرف الصحّي وغير الصحّي. إنّما هو أصوات الصمت تعبر إلى القماشة في شكل لطخات لونيّة، ومسارات تشكيلية تحرس مساحة الغموض المشتهى في أقاصينا. هكذا تحدّثنا لوحات فوزية ضيف الله التي تأتي إلى لغة الألون عبر نافذة الفلسفة. إنّها تتوسّل صمت اللوحة حتى تنبت الفكرة ثانية في مكان آخر. 
إنّ هجرة الفلسفة من لغة اللوغوس إلى بياض القماشة علامة على كوجيطو مجروح  يعاني من الوحدة، مسكون بشوق الالتحام بلحم الحياة وعطرها الأوّل. تلك هي الرحلة التي تريد ركوبها لوحات فوزية ضيف الله بعناوين متأرجحة بين الفلسفي والتشكيلي، بين شظايا الروح والرقص على أوجاع تونس، بين أصوات الصمت وإشراقات كونية قادمة من أفق بعيد. ماذا تقول لنا هذه اللوحات فيما أبعد من لغة الكلام؟ وأيّ عالم ترسمه القماشة ؟ شخوص بلا ملامح، تسكن دائرة لونية تكتظّ بالدوائر بلون الدم بأدمغة مكشوفة،وشرايين عارية، كما لو أنّها تصوير بالأشعة لخلل دماغي ما. إنّها كوجيتات مجروحة ..جرح عميق وخطير لأنّه يصيب عقولنا هذه المرّة. ربّما نحن مهدّدون بالجنون حينئذ. وربّما نحن فقط مجرّد أدمغة كسولة عارية من كلّ قدرة على قول ما لا يُقال. لأنّ ما لا يُقال أي "أصوات الصمت" قد تمّ منعها من الكلام أيضا. نحن اذن لا نلجأ إلى الرسم على سبيل الترف الشخصي، إنّما من أجل إنصاف كلمة لم تسعفها اللغة. وما لا تسعفه اللغة إنّما يمثّل خطرا على حرّاس الخطاب. إنّ من يرسم، يفتح ثنايا مغايرة فيما أبعد من لغة الكلام. ههنا يتمّ استدعاء "شظايا الروح" التي تمّ تفتيتها وإسكاتها إلى مجال المرئي. أليس فنّ الرسم "إرادة اقتدار" لإعادة توزيع المرئي واللامرئي ؟ أليس ثمّة في عقل كل رسّام فكرة مغايرة حول لعبة المرئي واللامرئي؟  
ينبغي علينا ألاّ نترك سياسات لعبة المرئي واللامرئي بأيادي أجهزة الدولة. تلك هي رسالة فنّ الرسم التشكيلي. في كلّ قماشة استدعاء لحدث أو صورة أو مظلمة تمّ التكتّم عليها. في كل قماشة حكاية غير مكتملة، صمت تمّ الدفع به إلى مقبرة ما لا يقال ولا يفكّر فيه وما لا يسمح له بالظهور على الركح الكبير للمرئي الذي تبيحه قواعد النحو والأخلاق والديانات والدول. 
"أصوات الصمت" إعادة تشكيل لأنفسنا بعد أن تمّ شطب ملامحنا في عصر توحّش العالم. أسئلة خطيرة توقظ عقولنا المجروحة في "مدن التيه" : من نحن يا ترى بعد نهاية العالم وتوقيع آخر حروب الإبادة؟ وحوش وأكلة لحوم البشر، أم مجرّد أطياف ومسوخ، شظايا الروح على ضفاف دول البؤس المعمّم ؟ نحن كلّ هذا معا. هندسة حمقاء ودوائر لونية لا تؤدي. نحن آخر الرهوط الهائمين على وجوهنا في "مدن التيه". لطخات لونية وصواعق سرديّة ..أرواح سائلة على سطح البياض..بياض الأكفان أو بياض الأعراس..أو بياض الصقيع..كلّها ثنايا نحو ما لا يُقال..لأنّ قواعد القول المسموح به تسطو على منطقة الكلام وتجعل التعبير حكرا على أصحاب السلطة المتملكين للنفوس والأجساد والخيرات. لذلك يفلت الممنوع إلى دائرة الصمت باحثا له عن لغة مغايرة. تلك هي مهمّة الفنون أيضا، اختراع أقاليم وجودية جديدة تحتضن الخارجين عن دائرة الصوت. وذاك هو ما تجسّده القماشات المعلّقة بين الواقع والخيال. جدار هو مكان تعليقها لكنّ الجدار غير محصّن بأي شكل. إنّه رمز القفز خارج بؤس الواقع، نحو خيال حافل بكلّ ألوان الطيف. 
 
"مدن التيه" ليس مجرّد عنوان للوحة تقف وحيدة في بعض هناك بلا هويّة خاصّة. نحن إزاء براديغم تشكيلي وسياسي ووجودي، يلتقط العصر في لطخة لونيّة أشبه بالدوّامة التي سقط فيها هذا العصر. عصر التوحّش والدماء السائلة كطوفان من الشرّ القابع فينا. وجوه مشطوبة وقلوب موجوعة وسماوات تتكسّر بين سيول لونيّة تهطل كمطر قديم. أعاصير قادمة وصواعق تشكيلية قيد الحدوث في زحمة البنفسجي والأحمر والبرتقالي وبعض الأخضر الواعد بالسعادة أيضا. أمّا الرماديّ فهو النذير بأنّ عالما قد انتهى، وأنّ بومة المينارفا قد بدأت بالتحليق نحو عالم جديد. 
ومن عمق الشظايا تولد الألوان الجديدة مرّة أخرى في نوع من العود الأبدي. تنفض عن الأرواح غبارها القديم وتدفع بها نحو تحوّلات مغايرة. على جدار الصمت، ترسم لوحات فوزية ضيف الله ثنايا ما لا ينقال. تغسل الأبجدية من كسل قديم، وتمنح الفنّ التشكيلي إرادة اقتدار ما من أجل إدراك ضرب من البهاء والضياء، كينونة اللون والشكل لغة أخرى لإدراك جرعة الحياة من جديد.
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون