مسرحية" ما يراوش " :نمذجة العمى الواقعي.
2023 ,03 نيسان
من مسرحية" ما يراوش " للمخرج منير العرقي.
مسرحية العميان "ما يراوش"... سؤال عن الجوهر في عمقه.
سؤال عن النور... عن بعد ثالث غيًر نظم الفهم والتفكير٠
*محمد الكشو:صوت العرب – تونس.
فهمنا عن ذواتنا بات اشكالي هذه الذوات التي باتت غير قادرة على التوجه نحو الآخر شبيهي على الدوام فما بالك بالمحيط والمحاط به.
ان غياب الضوء حقيقة مخيفة فما بالنا لو تعديناه إلى ما هو رمزي.
ضوء الميثوس يشترط السرقة وضوء المعرفة يخترق كهف العامة ويقتضي رغبة ومجاهده، ضوء المعرفة العلمية غير كل الفهم وارداه قتيلا فافسد الاطمئنان، ضوء الفن المسرحي مراودة ودغدغة وانطلاق إلى العدم وضوء هذه المسرحية يعاود إضاءة المرور احمر واخضر وبرتقالي رفاف قانون حذر، مساءلة تسعى لتحديد المجالات والمسافات والأحجام التي لا نراها.
أليست السلطة كما عرفها البعض: ذلك الظاهر الخفي الذي نراه ولا نراه؟
أليست السلطة صراع حول افتكاك الضوء والتحكم فيما نراه؟
أليست سلطة المخرج في العملية المسرحية افتكاك لنور عين المشاهد؟
ثلاثة أسئلة مربكة حددت مسارات العرض سنسترسل في تحسسها كمتقبلين طيلة العرض
"ميراوش"/ العميان لموريس ميترلنك لم تغير الجوهر والتزمت بالخرافة المقترحة.
مسرحية "العميان" حالة انتظار محفوف بالخوف لمجموعةٍ من العميان، ستة رجال وست نساء وطفل معزولون في جزيرة مُترامية الأطراف ينتظرون بخوفٍ عودة الكاهِن/"الشيخ" الذي أخرجهم من الملجأ وقادهم نحو الغابة، ثم تركهم لأجل إحضار الماء والخبز، وعدهم بأنه سيعود ليقودهم إلى مكانٍ آمنٍ قبل شروق الشمس.
انها حالة من حالات الترقّب والقلق بين العميان وهم بعيدون عن استكانة ملجئهم الآمن، ومتروكون في غابة موحِشة، بحيث يجلسون بترقّبٍ وقلقٍ كبيرين بانتظار الكاهن/"الشيخ"، الذي يُعتَبر أملهم الوحيد في الخلاص، ومع طول الانتظار يبدؤون بمشاركة أحلامهم مع بعضهم البعض، يستمر الأمر هكذا حتى يصل اذانهم نباح الكلب، الذي يأتي ويدلّهم على مكان الكاهن/"الشيخ"، يموت الشيخ وتطفو جثته في الماء. حينها يصابون بالخوف والفزع، ويبدؤون بمحاولة إيجاد طريقة للعودة إلى ملجئهم وبعد مدة طويلة يصابون باليأس ويصمتون كتعبيرٍ عن ذلك، وحين يبدأ الطفل بالبكاء، يعرفون من بكائه أنه رأى الموت.
تحاكي خرافتنا فعل لا هو بالنبيل ولا هو للرذالة ألصق، طولها المعلوم من الشروق الى الغروب، بلغة زينها صناع "مايراوش" بألوان من التزيين بواسطة اشخاص يتذكرون ولا يفعلون الكثير فهم اقرب للمفعول بهم في ظرف هذا الزمان والمكان فهل ستؤدي هذه الخرافة الى "التطهير"؟
ومن المعني بـ"التطهير"؟ الشخصيات ام الممثلين وصناع العرض او الجمهور؟ .
يحيلنا العنوان "العميان" / "مايراوش" الى حكم وهذا الحكم ينسحب على الجماعي، حكم ينطلق من وصف عضوي وهو فقدان لوظيفة عضلية وهي الرؤية ويحتمل هذا العنوان اقرارا مسبق وهو ان مطلق الحكم يرى فلا يستعمل ضمير الجمع "نحن" بل يستثني ذاته، العنوان اذن فصل هذه المجموعة "هم"، فنحن الذين "نرو" وهم الذين "ما يروش" يلتزم العنوان اذن منذ البداية بفصل عالمين عالم لا يرى وهو موضوع المشاهدة وعالم يرى وهو المشاهد وهو في الان نفسه وفيّ لطبيعة العرض المسرحي الفاصل بين فضائي الفعل/المشاهدة.
هذا العقد الاول الذي فرضه صناع العرض علينا منذ البداية والتزم به خلال وطيلة مسار العرض.
أظلم فضاء المشاهدة وأضاء فضاء العرض، المشاهد هو من يحتاج الضوء لتتم عملية الفرجة نحن اذن مدعوون للمشاهدة والمعاينة لا التماهي الحسي مع وضعية "الأعمى".
تتدافع الدمى راقصة قافزة مستنفرة تضيئها كشافات اساسية الألوان RYB الأحمر والأصفر والأزرق وكأننا في مخبر تحاليل ضوئية فلا بياض ذا سطوع بل يتفكك الابيض في ثنايا العرض وبين ذكريات الشخصيات وإذا بالدمى محمولة في حاجة ملحة لمن يقودها ويحركها كحاجة شخصيات المسرحية لشيخهم.
وتتعاظم اسئلة التلقي،
كل مفردات العرض تجعلنا في وضع المختبر (ليس بالمعني الارتودي) فشخصيات مسرحيتنا وهي في الان نفسه موضوعها معزولة امامنا ويسلط عليها صناع العرض وسائلهم الفنية لتشريحها وتفكيكها وما الجمهور إلا مشاهد متابع لهذا التفكيك وهو صاحب الحكم النهائي.
أليس الفن في هذا المعنى نمذجة للواقع؟
هل ينبغي فهم النموذج بالعودة إلى المفهوم الأفلاطوني في معناه الفلسفي وتعريفه كفكرة قابلة للتحكّم للتحقّق العيني في الواقع أم بالانطلاق من استعماله التقني وتعريفه كتصميم يمكّن من تمثيل الواقع بشكل مصّغر، مبسّط ومجرّد وحسّي وهذا ما ارادة المسرحية ان تقترحه على المشاهد؟ 
هل يمكن الحديث عن نموذج نظري مجرّد دون نموذج حسّي مجسّم للواقع المادي؟ 
للنموذج معنيان يتقاطعان ويتلازمان فهو من جهة تجسيم مادي لمنطوقات العلم النظرية يُمكّن من تمثّل المواضيع والتفكير فيها ومن جهة أخرى هو نسق نظري مهيكل يهيكل الوقائع الحسّية ويقاربها منطقيا.
وللنموذج المسرحي أيضا - في رأينا ومن خلال منطلقنا مسرحية "ما يراوش"- معنيان يتلازمان فهو من جهة تجسيم مادي لمنطوقات علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة حول تونس يمكننا من تمثل هذه المواضيع والتفكير فيها ومن جهة اخرى هو نسق نظري مهيكل يهيكل الوقائع الحسية ويقاربها منطقا جمالي.
يحيلنا نص مسرحية "ما يراوش" الى مواضيع اجتماعية وسياسية واقتصادية وعقائدية فطرقت كل شخصيات العمل واقعا متشعبا أحالنا مباشرة الى البلاد التونسية من خلال اللّهجات المعتمدة والإحالات الزمانيّة والمكانيّة وتذكّر الاحداث على لسان الشخصيات البطلة فالحدث واحد وهو الانتظار والجماعة يجمعها وضع العمى وتوكيل المخلص شأنها وهي وضعية راسخة في الثقافي المشترك بين العرض الذي اعتبرناه نمذجة فكريّة جماليّة والمشاهد الملاحظ انها ثقافة شعبية ذات روافد دينية تكفر بالفعل وتتواكل على "مهديّ" مخلّص تبرر عزوفها عن الفعل وتطويع الطبيعة لنقص فيها وتواكل قدري على الاخر انه فكر يتدفّق منذ الوهلة الاولى للعرض في شخصيات مرددة لتعاويذ دينية تنحى منحى التّصوف والذكر بارعة في المعاودة والقول لا تتحرك، جامدة، ثابتة، ثبات الزمن النفسي للشخصيات انها جوقة الجزيرة بأسرها صوتها الوحيد هو الحياة لكن الطبيعية تفعّل اصواتها بالرياح والأمطار والصدى فإذا بهذه الجوقة غير متجانسة مع محيطها الطبيعي ايضا وإذا بالخوف والرعب والارتجاف ينتابها، انه وعي دفين بعدم تناغمها وتجانسها مع محيطها الطبيعي، انها بكل بساطة خارجة عن الزمان والمكان انها في سياق لا تاريخي.
هي ذي صورة الجماعة في المسرحية فكيف تبدو طبيعة علاقاتها فيما بينها؟
تتعدد الشخصيات الاثني عشر وثالث عشرهم كلب ملتزمة بمبدأ التناصف الخلقي الاسطوري منذ الخلق الأول الى الطوفان فهل ستعمر الجزيرة بحضارة العميان؟
هل ستبنى مدن العميان واكتشافات العميان وطرق العميان وتسن قوانينهم الخاصة وتبتكر طريقة تسيير لأمورهم؟
يشترط الاجتماع البشري الاتجاه نحو الآخر حبا وتوليدا وتعاونا على الفعل وتقسيما للمهام هذه الخاصيات الاساسية للتعايش والتواصل في الزمان إلا ان مجموعة عملنا يكبلها المعتقد والتفكير البصري الذي يحدد وعي المجموعة في المسرحية بأنه اشبه بالوعي القطيعي فيحل التقارب الجسدي لإبراز قوة القطيع عوض التعاون لرد الخطر ويحل الانغماس في الذات بالتذكر - وهي ميزة خصت كتابة هذا العمل في فسح المجال لحيز مونولوجي لكل شخصية – محل التوليد الفكري والحوار لنتحول من الديا- لوغ الى المونو – لوغ فتستكين ملكة الفكر، ملكة اللوغوس وحيدة فهي محاصرة في الذوات او رهينة للترديد الجماعي تذكرا أو ذكرا.
يتعطل الفكر بالانتظار ويتلهى عن الفعل ويتنحى عن التغيير حتى حضور الشيخ المنتظر او هو الغائب المغيّب انه وعي ارتكز على الشيوخ، فمن سلطة الأب الى الامام وشيخ الزوايا الى أمين السوق والقيّاد والعمّال والبايات والرئيس مدى الحياة ورئيس النواب ومجالس الشيوخ، ألسنا محاصرين بسلطة بركتهم ومعرفتهم ومغرفتهم ومعارفهم؟ 
أليس في موتهم نهايتنا؟
ألم نتحول الى افواه متكلّمة وأعين معطّلة لرؤية أي نور؟
ألا يفسّر هذا الوضع حالات العطل والتّعطّل التي نعيشها؟
ألا يؤذن هذا الوضع بنهاية العمران وخرابه؟ 
هي ذي وضعيات النص المقترحة، انها محاولة لنمذجة المجتمع ورغبة هذا العمل لإنتاج نماذج يكون قوامها وعي فكري بطبيعة كتابته الخاصة أي أنّ مقترحه مشروع وليست موضوع بما أنّ الفنان هنا صانع نماذج مرتبطة بالسّياق الاجتماعي والاقتصادي والحضاري. 
فكيف عملت هذه النماذج الفكرية لبناء نموذج بصري مسرحي "مانراوش"؟.
يعتمد عمل "مايراوش" أساسا على العروسة المحمولة لتتأكد لنا صورة اختفاء الجوهر المفكّر وتقديم الميّت من الخشب في سعي حثيث لإحيائه وكأن حياة الشخصيات المراد تقديمها مشروطة بحاملها ومحرّكها لعله شيخها، انه الفنان المحرّك الذي يسعى الى انارة طريق محمولته ليريها ثنايا الركح ويريها للمتفرّج، "شيخنا" هنا هو المحرّك انه فنان في خدمة الآخر لكنه أيضا مستلب اذ تقتاده سلطة النص، وفي اللّعب يتوالد التفكير والصراع ويزيح المحرك الدمية متمردا ويكشف عن حضوره ويعبر عن وجوده فيتباعد وعيا وتعليقا وتفكيرا أليس على المجتمع ان يعتمد جميع ذكاءاته ويثمنها ويشغّلها ويستنفر كل طاقاته ليحيى؟
ألم يتحوّل عالم المسرحية من التّماهي المحض الى نقده ثم الى التفكير المحض بمحض ارادة الممثل والقائمين على هذا العمل؟
أليست الدمية المحمولة ومحركيها هي الصورة المنمذجة لفكرة العمل في هذا المستوى؟ 
تتحرك الشخصيات في فضاء لعب مفتوح هو الجزيرة كما يقدمها نص المسرحية والجزيرة فضاء محدود حدوده البحر الذي تحيل اليه الشخصيات وهو فضاء المشاهدة، لتكون المعادلة كما يلي: الجزيرة فضاء اللعب والبحر فضاء المشاهدة وكأن الجمهور حدود الشخصيات وطموحها الارقى والأكمل فهو يرى ويتبصّر، هذه المعادلة تتحول مع بداية العرض ليصبح الجمهور هو المدعوّ للنظر والمشاهدة فهو "الأعمى" عن فهم واقعه وما المسرحية إلا استنطاق له من خلال من خلال فعل نمذجة شخوصها وعللهم.
تترصّف الأجساد في فضاء اللعب متناسية مبدئ المنظور Perspective فلا نقطة للهروب Point de fuite تميز تشكيل الاجساد في الفضاء، هي أقرب للمنمنمات وكأن وعي الشخصيات بالفضاء يحيلنا الى القطيع فهي اجساد متراصة من خطر الظلام والعواصف ومتفرقة متنافرة خطيا في حالات الاسترخاء انها خطية الحياة التي ترسخها تحركات الشخصيات وسعيها للهروب من فضاء طبيعي مفتوح لفضاء التكايا المغلق انه انعكاس لمنطق الحرية وانضباط لمفهوم "الشّيخ" القائد المخلّص انها عبادة للسجون وترسيخ للهيمنة وتأبيد للانغلاق والتّكلس والتّحجر والحياة من خلال السلف.
أنّنا من خلال مسرحية "ما يراوش" نذهب من النظرية إلى الواقع، من الواقع إلى النظرية أي نمرّ تدريجيّا من النموذج الرّمزي إلى التصميم ومنه إلى التصميم الرّمزي هذا لا يعني أنّ هناك توافقا أو تطابقا كلّيا بين النموذج المادي والرّمزي بل هو تمثّل و تمثيل. 
إنّ مسرحيتنا - والعمل المسرحي في رأينا- بناء افتراضي له طابع إجرائي ومنهجي يستبدل واقعا معقّدا بنموذج عيني رمزي مجرّد أو مختزل هو افتراضات يصنعها مخرج العمل والقائمين عليه بمعنى أنّه يُنشئ تصوّرا نظريا للواقع يكون تقريبيّا وتمثيليّا إنه نموذج تمثّل لشيء ما ولمسار نسق غير قابل للإدراك على نحو مباشر يجري بناءه في الخيال قبل تجسيده في الواقع إذن هو جدل خلاّق بين الواقع والنظرية والحسّي والمتخيل ينشأ بفعل تبسيط متعمّد لأنّه يقوم على استراتيجيا الإغفال والإهمال ومتعمّد لأنّه لا يدّعي التطابق بين النموذج وما يحدث في الواقع. "ما يراوش" إذن، ليس نسخة أو أصلا لأنّ هذا لا يعبّر عن حقيقة النموذج بل هو ينشأ لغاية معرفية هدفها التبسيط والتوضيح والتفسير فالخريطة التي تمثّل الأرض ليست هي الأرض إذن هي" جوهر قابل للتعميم " . إذ يقوم على أساس فهم شيء ويهمل أشياء كثيرة وهو يحتفظ بالقليل لأجل الفهم.
*مخرج وباحث تونسي.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون