مسرحية تائهون: من لعنة الظلام الأول إلى لعنة الغفران المستحيل.
2023 ,31 آذار
*د. فوزية ضيف الله:صوت العرب – تونس.
رأيته  كما رآه  غيري ربما،  مسرحا على الطريقة السينمائية. استنجد  بالتقنيات  المشهدية  الجديدة،  مزج بين الفراغ  والصمت  والضباب  الضوئي، سحابة من التفكير الحر تطوف  الشخوص  والفضاء، جريمة  تتلون  على الركح  وتتخفّى  فتصبح  الفرجة  مقلقة  وكلنا  متهمون  بقتل  أم  إشراق.
"اشراق" فتاة مراهقة، تقتل أمّها، تنكل بها، وتُحدث هذه الجريمة رجة في الاعلام، والشارع والوسط التربوي والاجتماعي. تتحرك التحقيقات والتحريات، كل الأقوال متوترة، متشعبة، متداخلة. يهيمن الغموض على الحكاية، تتعقد المساءلة، من يسائل من؟ هل القتل هنا هو قتل لظلام جاءت منه اشراق، فجعلها مظلمة في نظر نفسها؟ من  ساهم في الجريمة البشعة ؟ من صنع من "اشراق" مشروع قاتلة؟ المدرسة، الأستاذ، الأب، الأمّ؟  أم كلهم مجرمون؟ .
وحده الأستاذ، من كان قادرا على لوم نفسه، من كان قادرا على الاعتراف بأنه متورّط في جعل "اشراق" ظلاما. ينفلت العنف من المحلي إلى العالمي، كما تنفلت دماء الجريمة وتنسكب في تخثر مقلق. 
اشراق  لم تشرق  على الركح،  بل اغتربت  وسط خطابات  الإعلام استعملتها  وسائل  الإعلام خبأتها  السلط القضائية،  كانت غريبة  حتى عن أبيها  "المزاودي"  الذي  استغل  هو الآخر  لحظة ظهوره  في الاعلام  ليتحدث  عن مأساة  "فن المزود"  والبسيط  والعامل اليومي،  ليتحدث  عن علاقته  الهشة  بأم إشراق  العراقية  الأصل. ليصبح  منظورا إليه  على أنه بريء،..وفي مكان آخر  يظهر استاذها  الذي  نسب  لنفسه  تهما  أذنبته.   يُورّط العرض  المدرسة  والأنظمة التربوية  والأم  في جملة  الاخلالات  التي جعلت اشراق  مجرمة  تقتل  أمها  ثم استاذها.
يفضح العمل انفلات مؤسسة  الأسرة،  مؤسسة  التعليم مؤسسة القضاء،  مؤسسة  الإعلام  والشارع  أيضا، ولكن لا تظهر في الصورة إلا التهمة التي وُجّهت  للأستاذ. ربما كان وضع هذا الاستاذ مخصوصا لأنّه  كان يعيش وسط عالم  مختل، مشحون بالعنف  والفوضى والدمار، كل الصور مختلة. إنه واقع  تائه، 
 لذلك نحن تائهون  فعلا أمام الفرجة  كما تاه الممثلون  على الركح وسط أوجاع  قاتلة  وصور متناحرة  وأصوات متداخلة  وموسيقى مرعبة، وسط فراغ  فيه كرسي أحمر، يحضر أحيانا  فقط، ليتحدث  عليه المتهمون  أو المعترفون..
هو كرسي وثير لكن  لونه  موجع، مفزع  كالدماء  التي  انسكبت  على الشاشة  وراء الممثل  محمد شعبان، كرسي مملوء  بالوجع بالقسوة، هو كرسي المساءلات والاعترافات بالجريمة. اشراق  هربت  وصارت على ساحة  العنف  المدوي...ماتت اشراق  أشد  موتة  لأن الحياة  ماتت  في ضلوعها  على أرض  وطن خائن.
تفضح المسرحية، تُفكك، تعري واقعا مريضا،  استحوذ عليه العنف المسكوت عنه،  العنف  الخفي  وغير الخفيّ، تفضح بلادة وسائل  الاعلام وتحولها الى تهريج  ركيك،  تفضح مماطلة  الجميع أمام الحق   وتوجه أصابع الاتهام  للعبد الفقير،  الأستاذ..كلنا نتهم الأستاذ  والمؤسسة  التربوية ، ولكن لا نقر  فعلا  من جعل من الأستاذ  عنيفا،  من حول المؤسسة  التربوية  إلى خراب؟، من دمغج  ذاكرة  الأجيال؟،  من تلاعب؟، من كان يحرك  الخيوط  خفية  في الظلام؟.نحن لا نرى إلا النتائج  لكن علينا  أن نتتبّع  الخلفيات، ونحفر  في المسارات  الخفية  للعنف. 
ولكن كنا ننتظر رواية إشراق،  على لسانها،  لم أصدق  كل من تكلم  وروى حكايتها،  لأن ما ستقوله  اشراق  مختلف تماما..ليت نزار السعيدي. أحضر لنا اشراق وأمها، فهما الغائبتين،   لكنها المحركتان  للأحداث،  ليت اشراق تكلمت  بلسانها  وجسدها ، وليت  أمها  كانت  بلحمها  لتدافع  عن التهم  التي لصقت بها،هل  يمكن لأم  أن تخون حليبها  باطلا؟ .
"تائهون" مسرحية من إخراج نزار السعدي
نص: عبد الحليم المسعودي ونزار السعيدي
دراماتورج: عبد الحليم المسعودي.
أداء: رمزي عزيز، جمال ساسي، انتصار العيساوي، توماضر الزرلي، محمد شعبان، علي بن سعيد، صادق الطرابلسي.
*اكاديمية وناقدة تونسية.
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون