كاليغولا 2 للمخرج فاضل الجزيري: الوقت القاتل والكاتارزيس الحامض.
2023 ,31 آذار
لقطة من مسرحية كاليغولا
د. فوزية ضيف الله:صوت العرب – تونس.
قدّم المخرج فاضل الجزيري مسرحيته كاليغولا 2، يوم 27 مارس 2023،  بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح والذكرى الأربعين لمؤسسة المسرح الوطني التونسي. 
هذه المسرحية هي من إنتاج المسرح الجديد، يتقمص الأدوار فيها: محمد كوكة ، بعد غياب دام خمس سنوات، الى جانب ممثلين متخرجين من مدرسة الممثل: محمد بركاتي، طلال أيوب، نهى نفاتي ورحيم بحريني و ايمان مناعي واشراق مطر وسليم الذيب. ست شخصيات، حافظ المخرج على أسمائهم الحقيقية، للاشارة الى البعد الواقعي للحكاية.
اعتبارات أولية:
ان كاليغولا  هو اسم يعود الى اللاتينية (Caligula) ويعني "حذاء الجنود الصغير"، أي تصغير اسم "كاليغا (Caligae) وهو اللقب الذي حصل عليه غايوس قيصر ابن الجنرال الروماني جرمانيكوس(Germanicus). 
بعد موت الجنرال عادت اغريبينا مع أطفالها الستة الى روما، تورطت في نزاع حاد مع الامبراطور الروماني تيبريوس قيصر الذي كان خليفة اغسطس قيصر وابنه بالتبني وصهرا له. وكان يبدو إمبراطورا معتدلا رغم مظاهر القسوة العرضية. بعد أن اشتد النزاع، دمرت العائلة، ولم ينجو من الذكور إلا كاليغولا.
1-الفاضل الجزيري: مشروع الرؤية الابداعية المتجددة:
يشتغل المخرج فاضل الجزيري في سياق مشروع متكامل، سواء كانت التجربة الإبداعية سينمائية أو مسرحية أو فنية صوفية. فلا يمكن تناول أعمال الجزيري بصفة منفصلة عن مساره الابداعي إجمالا. فلا يبدو الانتقال من كاليغولا (1) الى كاليغولا (2) مرورا بفيلم قيرة (De la Guerre) لسنة 2017، دون البحث في دلالات المخاض الابداعي الذي ينضج في كل مرة ليعاود الظهور مرة اخرى اما بتحويل الحكاية وتطويرها سينمائيا أو بإعادة كتابة المسرحية بناء على تغير المعطيات الواقعية والمستجدات في المشهد التونسي.
يذكر الناقد السينمائي فتحي الخراط في إحدى مقالاته عن الفاضل الجزيري، أن مسرحية كاليغولا 1  قد قدمت " في ظروف غير مواتية، في مناخ سياسي واجتماعي تقهقر فيه الاهتمام بالثقافة (...) ولم يكتب للمسرحية أن تعرض الا في ثماني مناسبات. ونتيجة هذا الإجهاض اختار معاودة الحمل والولادة من جديد، فأعاد تجميع فريق الممثلين لإعداد فيلم سينمائي وذلك خيار قار في مسيرة المخرج مذ كان في مجموعة المسرح الجديد..." فتم تحويل المسرحية الى فيلم سماه "ﭪيرّة (De la guerre) ،مثلما حول مسرحية "العرس" الى فيلم سنة  1979 ومسرحية "عرب" كذلك إلى فيلم سنة 1987.
مازال الجزيري يواصل مساره التحذيري والتوثيقي، مراوحا بين واقعية الحكاية والشخصيات، وصوفية الاخراج والمعالجة. رغبة منه في تطعيم كاليغولا الأولى واخراجها ثانية، وسط صرخة تحذيرية وتطهيرية تؤذن بضرورة التجرد من كل الماضي للدخول في كاتارزيس جديد، وسط بياض صوفي روحي، مغلق، منغلق على نفسه، تدور ساعته وأحداثه وسط حمام. 
2-الملامح الصوتية: امطار طوفانية في الخارج، وموسيقى استفزازية.
تدور الأحداث على إيقاع صوت امطار طوفانية في الخارج، صوت الرعد، إيقاع موسيقي استفزازي يشبه قرع طبول الخطر، يتزايد ويتضاءل حسب المشاهد، لا ينفك الايقاع يطرق آذان المتفرج، تصحبه تحذيرات مرئية من قبيل القطاعات الكهرباء المتكررة، غلق الابواب، ضياع المفاتيح، ضياع الادباش، الإحساس بالجوع والقلق، فراغ الركح الموحش، عراء الجميع أمام دواعي الاغتسال الجماعي، الحديث عن المقبرة، والحساب والذنب، السعال والقيء المتكرر لأحد الممثلين، فقدان الذاكرة لدى الشيخ محمد وبحبه المتكرر عن الكتاب الأحمر الذي يُسجّل فيه ما ينساه من أرقام وأحداث.
3-الملامح السينوغرافية: الكاترزيس وباتوس السلطة والقتل والضياع.
رُكح يُغلّفه البياض من كل جانب، جوانبه وارضيته، وكذلك ينتشر البياض فيما يرتديه الممثلون من اكسسوارات الاغتسال (مناشف). جرد المخرج الركح من كل شيء، باستثناء كراسي صغيرة يستعملها الخارجون من الحمام للجلوس، ثم تتحول إلى طاولات أو سرير..وفق تغير المشاهد. كما جرد المخرج شخوصه من ملابسهم، الا "المناشف" التي تحيط اجسامهم بعد مرحلة الاغتسال والتطهير. شخوص واقعية، باسماء واقعية، تجردت من ملابسها لكنها لم تتخلص من قيم العنف والشر والحب والغيرة والشهوة. تنغلق عليها أبواب الحمام، ذات طقس ممطر ومرعد، أجواء مرعبة، ينقطع فيها الكهرباء، يشتد فيها الخوف والضياع والاحساس بالجوع، تتخاصم..ثم تشتد الخصومة لتنتهي بالقتل.
وسط البياض..يحضر الأحمر في أمور ثلاثة: الكتاب الأحمر الذي يسجل عليه الشيخ ما ينساه، طلاء الأظافر، احمر الشفاه...و لباس الثورة الأحمر الذي ارتدته نهى عندما ثارت على زوجها وعبرت عن امتعاضها من خوفه إزاء اخيه كاليغولا.
أمّا الكتاب فهو يدون تاريخ الحب والخطر، اما طلاء الأظافر فهو يرسم خطوات امرأة تزينت وقاومت غطرسة حاكمها، واحمر الشفاه جاء يزين شفاهها المقموعة، ثم يحول أداة الجمال الى فظاعة متمردة، تنتفض على اثرها الشفاه الانثوية لتخرج عن صمتها..وتفضح ولادة النور التي تأجلت عندما تم اجهاض الحمل.....ان احمر الشفاه والاء الأظافر هما اشارة الى أن المرأة يمكن أن تحول انوثتها الى سلاح وان تونس كتبت تاريخها بالحب والدماء.. . 
اما الرداء الأزرق الفيروزي الذي يرتديه الحركاتي، فهو متطابق مع تضحياته، وخدماته..لكنه صار معزولا فكان شبيها بالبحر الذي يراوح بين المد والجزر.. تحضر "المخدة" او الوسادة الوحيدة على الركح منذ البدء، يحولها من مكانها كل مشهد نفس الممثل "سليم"...تدور هذه المخدة على أرضية الركح دورة كاملة..كأنها أداة لقيت الزمن..وعندما تعود إلى مكان وجودها الأولي تصبح أداة يحاول من خلالها طلال أيوب قتل الشيخ محمد، بعد نقاش حاد دار بينه وبين كاليغولا. لم يكن الشيخ راغبا في تسليم أمر السلطة للشاب ابن اخيه كاليغولا، ولكن كاليغولا المتسلط، يواجهه للنهاية..
 في حين يحضر البرتقال شهيّا، محيلا على الحب والحياة والطاقة والرغبة من ناحية كما تحيل حموضته على هاجس التنظيف الداخلي للروح أيضا. 
4- الملامح التأويلية: اركيولوجيا القيم.
جاء بناء كاليغولا 2 بناء كلاسيكيا، نسق تصاعدي، تتطور أحداثه وصولا الى مشهد تراجيدي في النهاية هو القتل. تطرح المسرحية وفق منزع صوفي ..ضرورة المرور الى مرحلة كاترزيس جماعي للبلاد وللافكار..تتجرد فيه الشخوص من الملابس والمظاهر ، ليتم الحفر في القيم الانسانية المحضة، وكأنه عودة إلى حالة الطبيعة الأولى. وسط بياض الركح، يكون التطهير بالماء في الحمام، ترافقه مياه الأمطار الطوفانية، صدمات الضياع وانقطاع الكهرباء، تعيد الجميع الى ذواتهم، للمراجعة والمحاسبة..
تحضر الأرقام محيلة الى محطات في تاريخ تونس. مثلا يتكرر ذكر رقم 23، 13...يتم ذكر شخوص حقيقية: "الحبيب".."وسيلة"...الى غير ذلك من الايحاءات.
تتم مساءلة العنف، ضمن مفارقة البياض والسماء...وتبحث الشخوص عن الحرية ضمن فضاء مغلق..وتطرح حرية المرأة على لسان امرأة قمعت وعنفت 23 مرة...وكلما حاولت التحرر عنفت 23  مرة أخرى.. في المقابل، كان كاليغولا طاغية على الجميع، بيده مفاتيح السلطة والأبواب، يتلذذ الخمر والنساء والسلطة، وسط ممارسات عنيفة رمزا ولغة وحقيقة..فينتهي به تسلطه الى قتل أخيه المريض وتهديد عمّه بقتله خنقا. 
*أكاديمية وناقدة تونسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون