** نشوة الوقوف على الجسر **
2022 ,07 حزيران
سونيا عبداللطيف : صوت العرب – تونس.
 
 
** نشوة الوقوف على الجسر **
حين أكون بصدد العبور فوق جسر ما وأنا أتنزْه مترجّلة في الأماكن.. أشعر بإنتشاء كبير.. إلى حد انني اشتهي أن أرتمي من قمته لألقي بجثتي في الأسفل.. فأنا أرى الفضاء والطريق.. ممتدا وجميلا... يصل بل يتجاوز الأفق الذي لا حد له إلا إذا أطبقت السماء على الأرض بأجنحتها.. .. ... فأنا أشتهي وأريد أن أتلذّذ و أن أسمع ارتطمامي بوجه البحر الأزرق الذي يغريني سحر لونه وبهاء منظره وهمس موجه وهديره فكل شيء فيه يغويني.. فأنا كلما نظرت إليه .. أشعر بمغناطيس قويّ  يجذبني ويشدّني.. وما يجعلني أنتشي اكثر حين اتخيّل أنني لا اتهشم ولن أتهشّم عند ارتطامي.. لأني أنا التي سأهشّم مرآة البحر وأكسر أنفه وأخترق جسمه... فأصل إلى جوفه وقلبه وكبده.. وتجزع كل الأجسام العائمة في دهاليزه القريبة مني وأنا أنزل كالفأس بل كصاروخ في انطلاقه يمزّق الفضاء والسموات.. أتصوّر أنني أمخر لحمه وعظمه... ولا أتوقف إلا حيث تنتهي جاذبية الأرض وتفقد سلطتها عليّ.. إذ يخفّ وزني... فأصير بلا وزن.. حينها إمّا  يعيدني التّيار إلى سطحه فأتحكّم في توازني وأطلق سلطتي على اعضائي وأطرافي كي تصبح الأمور بعصمتي وتحت جهاز تحكمي.. فأطفو كما يحلو لي فوق سطح الماء... وإما يجرفني التيار حيث يريد و يلقى بي في رحاه التي لا تتوقّف حركتها ولا تهدأ، فتبتلعني ابتلاعا.. وترحيني رحيا.. وقد أشهق من هول الصدمة فتمتلئ وتتعبّأ رئتايّ وتصبحان بالونتين كبيرتين منتفختين... فأطفو بهما شيئا فشيئا وأصعد كتلة فوق الماء... تؤرجحني الأمواج بين أحضانها وتهدهدني فأنام النوم الهانئ الهادئ... النوم الأخير .. وتتلقّفني بغبطة كبيرة اللجج... وقد تأخذني إلى الضفاف في جزيرة ما أو شاطئ مهجور.. وقد تقذف بي للصخور بشدّة وفي غضب، حين يشتد بها التعب.. فتفتتني أنيابها ومخالبها إلى أشلاء عديدة، صغيرة وكبيرة.. وقد يصادف جثتي المنتفخة قرش البحار فيتناثر الرّذاذ من فمه وتقدح عيناه قدحا سريعا، وفي هجمة مباغتة واحدة، أصير كحبّة منوّم في بطنه.... فيتعب من حمله لي وربّما تخزه أطرافي فأنا كالشوك أنبت في قلوب الأعداء والحسد والطّغاة.. ، فينحو بي حيث الدهاليز ليتكئ وينال قسطا من الراحة فهرموناتي حامضة قليلا.. وكويراتي مخدرة قليلا... وأنوثتي قاتلة قليلا.. ولحمي نتن قليلا... فأنا اليوم لم أستحمّ لأن الطبيب المباشر لصحتي والذي حقنني منذ يومين ضد فيروز كوفيد 19حذرني من لمس الماء حفاظا على صحتي وصحة من يصافحني فانفاسي دخان.. وقد انقل الكورونا إلى جسم حبيبي وهو يقبّل شفاهي بلهفة المشتاق... المسكين حرمه الحجر الصحي والبروتوكول الصحي من الحنان العاطفي والنوم في الاحضان طيلة أشهر الكورونا الملعونة.. وخوفا من تعكّر الأمور... التّلقيح هو الضّمان الوحيد... لتجنّب خطورة العدوى ...
كل هذه هواجس سريعة تجول بخاطري عند كل وقفة أو مرور من جسر ما... ووقوفي هذه المرة ليس على الأطلال... فأنا لا أحب العيش على الأوهام.. ولا حتى أن أسترجع الذّكريات وأتغبّن على ما فات وأكره تمجيد الماضي والنّوم عند خصره ... وقوفي هذه المرة كان فوق جسر يوصل بين يابستين يمرّ من فوق طريق سيارة كبيرة على مستوى اتجاهين وبكلّ واحدة ثلاثة ممرات للسّيارات.. والسّيارات فيها سريعة جدّا فلا إشارات ضوئيّة لتوقفها ولا إشارات مروريّة تنبّهها للتّخفيف من سرعتها... فهذا المنظر الفاتن يشدّني أيضا.. فأنا أحبّ العظمة والانتصارات العلمية والتكنولوجية في الحياة .. أنظر إلى الأسفل... فأشعر بالرّهبة... كما أشعر بالخفّة والانتعاش.. فالنّسيم حرّ يهبّ عليلا... لا شيء يحدّه أو يوقف هبوبه..وإذا ألقيت بجسمي بلاشكّ سيكون سقوطي على الأرض كسقوط الصّاعقة وارتطامي على أسفلت الطٍريق سيكون كالطّامة الكبرى، سيُسمع صداه الي حدود المطار الذي يبعد عن ذلك الجسر خمس كيلومترات فقد تفزع للارتطام الطائرات الرّابضة هنالك.. فتقلع قبل أوانها.. فبعضها كانت تتهيّأ لوضع بيضها وحضنه تحتها وفي وارف دفئها... وبعضها كانت كالقطط تنفش ريشها تستحثّ فراخها للالتحاق بها.. ولكن لا أريد أن يهشّم لي الاسفلت عظامي وفي المقابل هو لا يتأذّى... فإن وقعت ستسعد أكيد الأرض بسقطتي.. فأنا سأزين وجهها العاب و اليابس وسأجعله لينا قليلا ولزجا قليلا.. سأقوم بوضع القليل من المكياج على خدوده... الأحمر والأبيض والأسود.. الوان مناسبة.. وأشلاء من بدني ستوزع تحفا وهدايا هنا وهناك.. *خمسة، صفيحة، عين، قدم.. قرن.. ظفيرة....*.
أو قد يكون ارتمائي يتزامن مع مرور سيارة فأهشٍمها وتهشّمني.. نهشّم بعضنا البعض من فرحة اللّقاء والالتقاء وقد اخترق جسدها فأقوّس لها ظهرها أو أصيبها في مؤخرتها أو أشدّها  من ناصيتها... وربما أيضا أسبّب في طمز عينيها.. وبفعل الارتطام مع قوة الجذب مع كتلة الوزن يكون التّفاعل ودرجة الأضرار أكبر... وقد تحلّق وتطير في تلك الآونة روحي... تاركة جثّتي التي تضاعف ثقلها ربما بلغ الطن.. كبقايا وحل... 
وحين كنت مع نفسي أصوّر المشاهد وأمرّرها... مرّ من أمام شاشتي أبو فرناس... لم يتواصل معي ولم يعرني اهتماما.. ولم يلتفت.. لكنّي رأيته يسبقني إلى الجسر ودون كلام فتح جناحيه من تحت إبطيه وصعد الحاجز الحديدي للجسر أغمض عينيه.. خفق بهما قليلا في الفراغ.. جعل يقوّي ويضاعف في الخفقان كما تناهى إلى أذني صوت لهاثه الذي يتسارع كالكلب المسعور... ثم رأيته يرتمي في الجو مطلقا صرخة عالية مدوّية.. يبلغ صداها المدى البعيد..  وعبثا حرّك وحرّك جناحيه.. شاهدته ينحدر إلى الأسفل كالنورس الجائع الذي يهوي لاقتناص فريسته..
عيْبك يا أبا فرناس لم تستشرني قبل أن تجرّب الطّيران.. عيْبك لم تجعل لجاذبية الأرض على الأجسام حسابا..
لم تتفطّن أو لم تدرس حيّدا أنّ كتلة الجسم تتغيّر وزنها مع سرعة السّقوط بحسب الوزن والمسافة التي تفصله عن سطح الأرض وقوّة الجذب...
ثم إن جناحيك قصيران جدا يا أبا فرناس...
ماذا كان يحدث لو تريّثت قليلا... حتى تطول أجنحتك أو استعنت بي قد أعرتك أجنحتي... أو ربّما كنت لك وسيطا مع صقر أو نسر أو عقاب..  رحمك الله يا أبا فرناس... قد خسرت حياتك بسبب تسرّعك وحمقك.. وغرورك... عجّلت في نيل الشّهرة.. ولتكون الأول في هذا الاكتشاف.. ان يطير الإنسان.. لكن لابأس ها هو اسمك قد حظي بالاهتمام وسجّله التاريخ أنك صاحب أوّل محاولة في الطيران ومن تجربتك استفاد الغرب... فطوروا علومهم ووضعوا قوانين محكمة.. فكانت الطائرة...
ولكني أنا ، لن أكون ضحيّة مثلك ولن أقع  في خطإ تجربتك... انظر إليّ.. أنا اليوم أمتلك جناحين طويلين... طويلين جدا... جدا... لن أسقط كما أنت سقطت سألقي بجثّتي في الفضاء.. هي خفيفة وضئيلة الحجم... وبوصلتي تشير  إلى السّماء... نعم.. أنا لا أسقط في الأسفل... أنا لمّا أسقط أسقط إمّا واقفة وإمّا في اتّجاه السّماء... ناحية الإسراء والمعراج.. انظر يا أبو فرناس... كم هما جناحيّ طويلان... سأقطع المسافات وأصل المطارات في ثوان.. سأحمل معي كل الطائرات.. الرّاسية والرّابضة... الحبلى والعذراء... وسنرحل بعيدا بعيدا نحو المحال... بدون رجعة يا أبا فرناس.. فالسّفر الذي يكون دون وجهة ودون رجعة... هو سفر دون حسرة ودون دمعة ودون وداع.. ودون قُبلة...
نعم جناحاي طويلان... كأجنحة ظلال الأشجار في الظلام.... 
لا تظلّل سماء، 
ولا تظلّل أنجما....
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون