الضفة الثالثة: أيُ ممكنات للأستجابة والتلقي في العروض المسرحية في المهجر ؟ .
2022 ,27 تشرين الأول
الدكتور كريم رشيد والدكتورة سافرة ناجي مديرة الندوة الفكرية
*د.كريم رشيد:صوت العرب – بغداد.
 
 
قدم الدكتور كريم رشيد،ورقة مشاركة بعنوان" الضفة الثالثة: أيُ ممكنات للأستجابة والتلقي في العروض المسرحية في المهجر؟ "،وذلك في المؤتمر الفكري " التمسرح في الخطاب الراهن وممكنات الإستجابة والتلقي"، الذي عقدة مهرجان بغداد الدولي للمسرح ـ الدورة الثالثة 2022.
هَجَر وهُجِّر وهاجَرَ ورَحَل ،
و تهجّر  ورُحِّلَ وترحّل وأرتحَلَ ،
 ونأى وتناءى وأختفى ، وهامَ وتاهَ وضلَّ  ،
 وسافرَ وسُفِّرَ  ، وفارقَ وأفترق  ، 
وغَرَبَ وتغرّبَ وأغتّربَ 
وتباعَدَ وأُبّعد وأبتعد ، 
وغاب وتوارى وولى وذهب 
 وغادرَ ونُفيَّ  وأختفى وأحتجب ، 
وأُقصِيَ ونُحّيَ وعُزِل َ وأعتزل ،
وبَرَحَ ونَزَحَ وإنتَزَح وأَعرَضَ وأنتقل .
 ”ومِن نازل البينِ حلَ البينُ وأرتحل” . 
ترد في اللغة العربية مرادفات ومعاني ملازمة أو مقاربة للهجرة سواء تلك التي تعني الطرد والترحيل والأخراج عنوة وبالأكراه أو بالأختيار الطوعي ، نجدها في القران الكريم وكذلك في الحديث والسيرة النبوية ، وفي ذلك مواساة لنا نحن المثقلين بمآسي الوطن الساعين نحو الخلاص بالصدفة أو بالمجازفة ، مترددين بين أن نرمي أحمالنا ونستبدلها بما نعثر عليه في الطريق من لُقى ، أو ندع تلك الأحمال الملقاة على أكتافنا مثل أصفاد أبدية تتماهى مع أجسادنا فنكون نحن وهي بنيانا واحدا ، مما يجعل منا كائنات غريبة التكوين أمام ناظري الآخر الذي نجتهد للعثور على شفرات التعاطي المعرفي معه  ، فيما هو يتطلع نحونا مندهشا من غرابة ما يراه. 
 لقصص الهجرة والمهجر وتنويعاتها المختلفة جذورا راسخة في حضارتنا العراقية تمتد الى ملحمة كلكامش وربما أبعد من ذلك ، وفي الأدب الغربي نجدها بينة في ألأدب الأغريقي وتتواصل تباعا حتى بدأ مفهوم أدب المهاجرين في الأدب الحديث يتشكل بعد الحرب العالمية الأولى وموجات الهجرة الى أميركا.  ثم شاع وترسخ أكثر فأكثر مع توسع وتعدد الهجرات الى أوربا وأستراليا وكندا ، حتى أن أدب الماهجرين  Exilliteratur  أو The literature of exile أصبح يشكل جزءا فاعلا من الثقافة الغربية المعاصرة. ولكن أي معنى تتخذ عروضنا المسرحية عندما نغادر (الهنا) ونحط في (الهناك ) هل سيكون مسعاها التعويض عن الفقدان الناتج عن مغادرة المكان الأم ومحاولة للعثور على الذات ، أم سعي لتبرير وجودها خارج نسقها الطبيعي الذي ولدت فيه ؟ هل هو أقتراح حر للحياة أم أنه الخروج عنوة وبالأكراه عن ما ننتمي أليه وما جُبلنا عليه ؟ هل هو أستجابة قهرية لضغط الآخر الذي يجذبك أليه بما في حياته من غواية ، أم أنه البديل الوحيد الذي تتيحه المواجهة مع الموت والأقصاء والقهر؟ هل المهجر والأغتراب والمنفى محض أحساس داخلي أم أنه واقع حقيقي يمكن أن يُنتج آليات الخلق والأبتكار ويصيغ وسائطه المناسبة للتلقي والأستجابة بين المسرح والمجتمع. 
لماذا تقبع معظم عروض المسرحيين العرب في المهجر في هامش المجتمعات التي يعيشون فيها ولماذ تُصر تلك العروض كما هو الحال في عدد كبير من الأعمال الأدبية على ترويج وصف المهجر كعالم بارد معتم كئيب وقاسي ؟ فإن كان كذلك فلماذا إذن لا ينقطع الملايين من البشر عن السعي أليه ؟ وكيف أصبح أدب المهجر وفنه جزءا من تاريخ الثقافة الغربية المعاصرة؟ 
كيف يستفيد المسرحيون العرب في المهجر من معطيات الحضارة الغربية إن لم يكفوا عن النظر لوجودهم هناك بوصفه مأساة ؟ ولماذا لا يستلهموا تجربة المهجر عند إدورد سعيد مثلا وتحولها الى أعادة أكتشاف وتأكيد وتأصيل الذات؟ هل تعامل المسرحيون العرب في المهجر مع مفهوم المهجر بوصفه فضاء للتنوع والتمايز الثقافي أم بوصفه مأساة وجرح لا يندمل ؟ 
متوالية معقدة من الأسئلة تولد عن بعضها البعض، تواجهنا كل يوم ، وبينما تسعى عروضنا المسرحية هناك للأجابة فأنها أيضا تحاول رسم ملامح تجربتنا الناشئة لعلنا نفلح أن نترك للجيل الثاني والثالث من المهاجرين بعض الأثر لأقتفائه.
لا تقدم هذه الدراسة سياحة فلسفية تطوف حول مفاهيم وأصطلاحات تتداولها المرتمرات ولا تسعى الى تعريف المعرف أوالترويج لما شاع في فيض التداول الأصطلاحي الذي ضجّت به اللقاءات المسرحية ووسائط التواصل الأجتماعي في الآونة الأخيرة حيث يتداول الباحثون عددا كبيرا من المصطلحات العائمة المعنى لا يتكئ الكثير منها إلا على أفتراضات وتأملات وشطط فكري. وبدلا من الغوص في بحر من رمال المصطلحات المتحركة تنحصر هذه الورقة في وصف وتحليل تجربة شخصية محددة في إطار معلوم نجحت عبر أكثر من عقدين من السنين في  تطوير أدواتها وتجديد ممكنات التواصل والتفاعل مع البيئة المحيطة بها في المهجر ، حيث يكون المسرح للجميع بدون أستثناء ، يهتم ويتفاعل مع حياة الناس ومتغيراتها المتواصلة دون إدعاء أو ترفع عن معطيات الواقع . حيث يكون المسرح لكل الفئات الأجتماعية بما فيها تلك التي لا تتواصل طوعيا مع المسرح أو ينحصر وجودها في ضواحي وأطراف المدينة والفئات التي تمنعها الأعاقة الجسدية  أو اللغة أو القدرة المالية أو الذهنية من حضور العروض المسرحية . وضمن هذا المسعى تجتهد الفرق المسرحية بتعميق صلتها بالجمهور عبر التوجه نحو فئات أجتماعية معينة  بوصفها مصدر للألهام وفي الوقت ذاته لكونها هي الفئات المستهدفة . ومن واقع تلك التجارب غيرت تلك العروض آليات التلقي المعهودة وأستحدثت أشكال جديدة أكثر مرونة وفاعلية من جهة التواصل مع الجمهور خصوصا في عروض ما يُعرف بمسرح  المهمشين أو الفئات المحدودة Community Theatre 
مثل طفل تواجه طائرته الورقية الملونة عاصفة تمزق حلمه بالطيران.
تتسم المحاولات التأسيسية دائما بمواجهات صعبة غير مضمونة النتائج ، وفي المهجر تتسم أيضا بأنها نزوع للخلاص ، محاولة للولوج الى المجهول في الضفة المقابلة حيث الآخر المختلف . وفي ذلك الأختلاف تكمن المصاعب والتحديات ، حيث يتطلب الأمر أبجديات جديدة للتواصل بين المبدع والمتلقي .فالأبداع الفني تحدي مثير يراود مخيلة الفنان الذي يرى المعرفة والجمال ملاذا له . فنحن مجبولون على التجريب والتجديد وبدونه نتحول الى قطع شطرنج تنتج آلاف الخطوات لكنها لا تغادر أبدا رقعة الأسود والأبيض . ومع كل مستوى تجريبي جديد نكتشف تحديات أو ممكنات جديدة للأستجابة والتلقي بين العرض والجمهور الذي ينقسم في المهجر الى فئات مختلفة ، حيث هناك من يقدم عروضه للجالية العربية تحديدا أو يقدم عروضا متعددة اللغات لجمهور المهاجرين وهناك الندرة التي تقدم عروضها بلغة المجتمع الذي تعيش فيه. وتتباين تلك العروض وقدرتها على التعاطي مع الجمهور ومستوى  الأستجابة التي تحققها . كثير من التجارب التي تنسب نفسها الى مسرح المهجر رأت فيه فضاء لمواصلة الأداء بالأساليب التي حملها المهاجر معه في جعبته المهترأة ، وهو في ظني أمر يجانب المنطق ، لأن الأبداع قائم على البحث المتواصل والتقصي ثم الأبتكار والخلق ، وهو وجود متحوّل ومتجدد ليس أسير نمط محدد ثابت . من المهم أن تكون له دوافع منطقية وأفتراضات علمية ومثلما تتباين دوافعه تتباين أشكالها ونتائجه ، ولهذا فأنه ليس لعروض المسرحيين العرب في المهجر ملامح واضحة أسلوبيا وفكريا ، لأنها في الغالب إما عروض لم تغادر بعد مساحة الأداء المحلي وظلت تعيد أنتاج أدوات ووسائط محلية  تخطتها العروض المحلية ذاتها في الوطن الأم ، أو أنها عروض تسعى للأندماج في المجتمع والتحليق في فضاء الأبداع الحر وتتأرجح بين الهنا والهناك ، ما عدا أستثناءات محدودة حققها بعض المسرحيين المجتهدين ممن نجحوا في الأنخراط ضمن مؤسسات مسرحية فاعلة فيما ضل آخرون يراهنون على موضوع الأنتماء للهوية الثقافية القومية أو العرقية أو الأثنية مما أعاق خلق ممكنات حيوية للأستجابة والتلقي بين عروض المهاجرين العرب والمجتمع الذي يعيشون فيه بأستثنائات محدودة . فموضوع الأنتماء للهوية الثقافية لم يعد موضوعا راهنا في عالمنا اليوم حيث أزالت التكنلوجيا كثير من الحدود الوهمية وصار للأفكار والفن والمعرفة أجنحة فلا توقفها حدود الهوية المنغلقة . لقد أصبحت قيمة الهوية الثقافية الحقيقية في تجددها ومساهمتها في إثراء حياة الحاضر وتلمس دروب المستقبل . ولنا فيما قاله محمود درويش درسا وافيا : (( لا الشرقُ شرقٌ تماما ولا الغربُ غربٌ تماما ، إن الهوية مفتوحة للتعدد )) و (( إن الهوية بنت الولادة ، لكنها في النهاية أبداع صاحبها )) وبالتالي ليس هناك أحد لديه هوية متشكلة من بعد واحد وجذر واحد . يعلمنا التعرف على الحضارات القديمة أن لنا جميعا جذور مشتركة . الهوية صيرورة متحولة وليست إنغلاق ، أنها تطوير وأبتكار وتطور متواصل . وكذا الحال بالنسبة للتأصيل فهو لا يتكيء على أرث ماض مقدس منغلق وهو لا يتسق مع معاداة الآخر (( فالذات لا توجد إلا من خلال علاقتها بالاخر )) ويجب التفريق بين العقيدة والهوية والتأصيل الفكري. وهذا ما أسعى له شخصيا لتكون عروضي المسرحية مثلي متعددة الهويات . لقد أصبح لزاما علينا نحن المسرحيين العرب في المهجر أدارك أن وجودنا الأبداعي في مجتمعاتنا البديلة مرتبط بموتنا بالمعني اليسوعي ((الحق الحق أقول لكم : إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت فأنها ستبقى وحيدة ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير )) . ( كتاب يوحنا . الآية 12ـ 24 ) .
ومن تجربتي الشخصية في العمل في عدة فرق مسرحية محترفة من بينها المسرح البلدي في مالمو في السويد وجدت أن آليات الأنتاج والتدريب من بين أهم الأشتراطات المبكرة لضمان تحقيق آلية فاعلة للأستجابة والتلقي بين العرض والجمهور. حيث أنها هنا تعتمد على نفس آليات العمل العلمي المختبري الذي يهدف الى الوصول الى نتائج وأكتشافات علمية جديدة وليس القصد منه تقديم تجارب تظل أسيرة البحث الأكاديمي والتعاطي الديماغوجي ، إذ يخضع العرض المسرحي لآليات البحث العلمي ويمر عبر خمسة مراحل ، إبتداءا من قبل كتابة النص الى ما بعد إنتهاء العرض ، وهي : 
1 . البحث والأستقصاء  لفتح المغاليق وكشف الأسرار وإسقاط هيبتها الزائفة وسرانيتها . في المشاريع المسرحية هنا في السويد مثلا يسبق أية كتابة لنص جديد بحث وتقصي وحوارات معمقة وورش تدريب أو تعليم وتعلم للغوص في الموضوع الذي يتطرق له العرض وأكتشاف آماده والفئة المستهدفة له والمعطيات المتوفرة مسبقا. ومثل هذه الطريقة قد تواجه مصاعب وتحديات في مجتمعاتنا العربية وتصطدم مع سلطات متنوعة تهيمن على مجتمعنا وتفرض عليه مفاهيم عاشت وشاخت في ثقافتنا المحلية متكأة على قداسة زائفة. 
2 . التجربة والأكتشاف  وهي المرحلة التي ترتكز على نتائج البحث والأستقصاء المعرفية والعمل على أحالتها الى مادة تطبيقية من خلال التدريب المتواصل المنظم والمحدد الأهداف لصناعة العرض المسرحي في عملية تفاعل مشتركة بين جميع العاملين والجمهور، حيث نستقبل أعداد من الفئة المستهدفة للمشاركة في ورش التهيئة والأعداد ، وتلقي آرائهم وملاحظاتهم قبل وأثناء كتابة المسودات الأولى للنص المسرحي ثم ندعوهم لمشاهدة البروفات المسرحية المفتوحة لإختبار عمل وتاثير أفكارنا عليهم ، وفي ذلك إحياء للتفاعل والأختبار في مراحل مبكرة من العمل المسرحي. 
3 . دراسة وتقييم النتائج والخبرات المُستحصلة بعد العرض ، ويُعد ذلك من الخطوات الأساسية في أي مشروع مسرحي ، لضمان تراكم الخبرة وتطويرها لقصد أنتاج أو تطوير وسائط أو أدوات أو أشكال أداء جديدة في العروض اللاحقة.  
 4 ـ  العمل على الكيفية وليس الماهية ، بدل الأشتغال على السؤال التقليدي الذي يوليه الكثيرون ممن يعملون وفق نظم العمل المسرحي التقليدية أهتماما بالغا وهو : ماذا نريد أن نقول للمتفرج في هذا العرض ؟ نُحاول دوما الأشتغال على سؤال تطبيقي هو : كيف نُقدم ما يهدف أليه العرض بوسائل جمالية مُشوّقة فكريا وجماليا ؟ فالكيفية هنا هي التحدي الحقيقي الذي يواجه الفنان وهو أول فعل للشروع في الأنتاج والأبتكار.
5 ـ العمل بنظام الأستدامة . تُواجه مؤسسات الأنتاج المسرحي تحديات بالغة الخطورة تهدد ديمومة وجودها المستقبلي ، لذلك يُعتمد نظام الأستدامة للحفاظ على الموارد البشرية والفنية والفكرية والمالية والعمل على التطوير المستمر المتناسق مع التطورات العلمية والمجتمعية وتبادل الخبرات وأستلهام المعرفة من كافة المصادر لأثراء وتطوير الأنتاج المسرحي. 
في منطقتنا العربية شاهدت في السنوات العشرالأخيرة عروضا مسرحية مهمة ومثيرة سعت بقوة لأختراق حدود مثلث التابو المعروف في ثقافتنا العربية ( الدين ، السياسة ، الجنس ) وهي وان كانت تتراوح في مديات جرأتها وجديتها وكفاءتها الفنية لكنها شكلت إنجازا نوعيا تخطى حاجز المألوف ، حيث غادرت قلاع التمويه والتخفي وولجت فضاء البوح والتحدي ، وهو مسعى يستحق التقدير لأنه يُفعّل الدور الأجتماعي للمسرح ويضيّق الهوة بينه وبين الجمهور . أما على الجانب الآخر من العالم الذي لا تابوات فيه فأن للمسرح مهمة أخرى وآلية إشتغال مختلفة ، فمن مهام المسرح البديهية مشاكسة السائد والمألوف والأصطدام مع التقاليد والأعراف والعمل على توسيع فضاء حرية التفكير . حيث لا يلاحق  الفن الحدث ولايدور حوله ، ولاينتظر تفاقم واستفحال التحولات الأجتماعية  ليجعل منها مادة له ، كما يحصل عادة في مناطق أخرى من العالم حيث يكون الفن  محض تعقيب جمالي على ما حصل من أحداث في المجتمع ، بل العكس من ذلك حيث يقوم الفن بدور المبادرة  لمناقشة مظاهر لم يحسم الباحث الأجتماعي أو السياسي أمره فيها بعد ،  فيقدمها الفن ليختبرها ويحفز الذهن العلمي والأجتماعي والسياسي لدراستها ، وبالتالي يقود المجتمع الى فهم ظواهره  ومتغيراته ، تماما مثلما يعمل الباحث والمفكر الأجتماعي . ولهذا يحظى المسرح كباقي النشاطات الثقافية بدعم كبير من الدولة ، وبالمقابل فأن التجارب المختبرية تنشط في فضاء الجامعة أو ضمن مشاريع محددة ذات معايير وخبرة عالية الكفاءة . وقد يصعب رؤية أمثلة واضحة لهذه المقولة المجردة  دون مشاهدة حقيقية للعروض المسرحية التي ينتجها المسرح السويدي اليوم المنشغل بأثارة أسئلة جديدة ، تجلب أحيانا الكثير من الرضى أو السخط من الجمهور لأننا هنا أزاء أسئلة تُعنى بشكل أساس بمتغيرات ذلك المجتمع تحديدا وإن كان لها طابعا أنسانيا شاملا ، لكنها بالتأكيد قد لا تحمل الأهمية ذاتها عند مجتمع آخر .  ومن بين اهم ملامح المسرح في السويد التطور الهائل لمسرح الطفل حيث تُعد السويد من بين الدول الرائدة في العالم في مسرح الطفل إذ يحظى باهمية وأولوية بالغة من قبل المجتمع ومؤسساته الرسمية حيث يُشترط أن يكون هناك قطاع خاص معني بالأطفال واليافعين في كل مؤسسة ثقافية رسمية مثل دار الأوبرا ومسارح الدولة في عموم البلديات ومسارح الرقص والباليه والمسرح الملكي والمؤسسات والمراكز الثقافية العامة والمؤسسات الأعلامية الرسمية.  ويمثل هذا السعي مراهنة حقيقة طويلة الأمد على تخصيب ممكنات الأستجابة والتلقي لجمهور واعد يتعلم في سنين مبكرة من عمره فن المشاهدة والمشاركة الفاعلة في العرض المسرحي . فقط عندما نبدأ بأحترام ذهن الطفل ونؤمن بأن مستوى تأمله الفلسفي يضاهي ما يدور في عقول الكبار وقد يتفوق عليه أحيانا عندها يكون لدينا مسرح للطفل يسهم فعلا في بناء شخصيته وتطويرها . هذا هو إيماني وهو ما عملت عليه في مسرحية (( الكل لديهم ساعات لا أحد لديه وقت )) التي كانت نتاج بحث في إمكانية تقديم عروض مسرحية فلسفية وتجريدية للأطفال في أعمار مبكرة ، وإلى أي حد يمكن أن تكون تلك العروض تجريدية بعيدة عن سطوة الخرافات وقصص الحيوانات ومسرحيات الوعظ المباشر ، وهو ما نجحنا به بفخر في تقديمنا مسرحية تحفز على التفكير في ماهية الوقت وحقيقته من زاوية نظر الأطفال الصغار .فالأطفال يتأثرون بالوقت حتى لو أنهم لم يدركوا معانيه لكن مجموعة أسئلة فلسفية تدور في أذهانهم من بينها: ماهو الوقت؟ لماذا يكون سريعا أو بطيئا؟ هل يمكن لنا رؤيته أو الإمساك به ؟ لماذا هو غامض ومتنوع ؟ متى يبدأ  ومتى ينتهي؟ هل يمشي أم يزحف أم يطير كما يقول الكبار؟ وتتعدّد الأسئلة الفلسفية التي جرت دراستها وتحليلها لتكون قريبة من وعي الطفل وإدراكه : هل الوقت ثقيل أم خفيف؟ هل هو ذاته موجود هنا وهناك وفي كل مكان ؟ أين يذهب في نهاية كل يوم ؟ هل يمشي بمسارات مستقيمة أو دائرية ؟ لماذا يشعر الكبار دوما أنهم على عجل ؟ هل يمكن أن يكون هناك عالم من دون ساعات ؟ ماذا يحصل للوقت حينها وكيف يكون شعورنا به ؟ هل يمكن الوصول إلى عالم لا يضطر فيه المرء إلى الركض واللهاث المتواصل ؟ 
بدأت التعامل مع هذا المشروع بتكليف من إدارة المسرح في مالمو  بعد الاشتراك في ورشة عمل تدريبية عنوانها “ممثلون مؤلفون” على مدى أسبوعين، ضمّت فنانين معنيين بمسرح الطفل من سبع دول هي النرويج، الدانمارك، السويد، أوغندا، النيبال، بوركينافاسو والصين. وقد تمّ فيها تبادل الخبرات المتعلقة بمسرح الطفل في ثقافات متنوعة، ومواجهة الأسئلة المعاصرة في حياة الأطفال. ثم انضم إليها فريق عمل من مسرح مالمو البلدي مكوّن من دراماتورج وكورغراف وفنانة موسيقية وتروبيين متخصّصين، نظمنا معا ورشات تحضيرية عديدة مع الأطفال الصغار هدفت إلى التعرّف على ما يعنيه الوقت عندهم،  وماهي نظرتهم وشعورهم عندما يتعرضون للضغط النفسي الذي يواجهه الآباء والأمهات بسبب ضيق الوقت . وشرعت بعد ذلك في تأليف نص “الكل لديهم ساعات ولا أحد لديه وقت”، وما إن انتهيت منه حتى بدأتُ بإخراجه لفريق من الممثلين والممثلات هم: سيلان ماريا، بوداك راش، آلكس ناكي وميثينه ونكتراكون، وفريق فني مكوّن من الكورغراف ليديا واس، ومصمّمة الملابس ساندرا هارلدسن، وفيليسيا آوليه في الدراماتورج، وجون كولون المختص في تقنيات الفيديو والموسيقى وسفين أيريك آندردسون في الإضاءة . هذه هي طريقتي التي أعتقد أنها يمكن أن تجنبنا البقاء في أسر المسرح التربوي والتعليمي الذي أصبح جزء من تاريخ ماض. ويؤكد ذلك ماحظي به العرض من اهتمام في الصحافة المحلية السويدية والتي كان من بينها قول صحيفة “سكونا داك بلادت” في أحد أعدادها. (( عنوان عبقري يقدّمه هذا العرض الذي يمتد ويتقلّص ويدور ويقفز مصطحبا معه الجمهور في كل هذه التحوّلات، ويلهمنا مادة للتفكير بماهية حقيقة الوقت، الذي لا يمكن لأحد أن يكون كبيرا جدا عليه أو صغيرا جدا عليه ... “إنه عرض الأفكار الكبيرة والصغيرة عن مفهوم الوقت الذي شغل الذهن البشري )) . 
أعتقد أن هذا مثلا جيدا للتجريب في مسرح الطفل ولتطوير ممكنات الأستجابة والتلقي بين العرض والجمهور ، فمسرح الطفل حقل كبير للبحث والتجريب لكننا غالبا ما نتناساه لأن العمل فيه لا يمنح الكثير من الشهرة ولا يجلب الأهتمام في مجتمعاتنا العربية رغم أنه يُسهم بفاعلية في إنشاء الأجيال القادمة ، إذ ماذا يمكن للفن أن يعطي للمجتمع وماذا ينتظر منه ؟ هذا هو السؤال الأساس والقوة الدافعة لعملنا البحثي والتطبيقي في المسرح ، وهذا ما يجعل كثير من عروضنا المسرحية المقدمة في المهجر مرتبطة بأسئلة المجتمعات التي نعيش فيها ، أسئلة مختلفة عن تطلعات الجمهور داخل الوطن ، وهذا ما سعيت لأدراكه مبكرا حيث بدأت تجربتي المسرحية في المهجر بتقديم مسرحية (( نحن الذين هناك )) التي قمت بأعداها وأخراجها عن مسرحية (( مهاجران )) للكاتب البولوني موريس مروجيك ، ثم شرعت بتقديم مسرحيات تستمد مادتها من الثقافة العربية لكنها تُعرض باللغة السويدية من قبل ممثلين سويديين ، ومن بين تلك العروض (( أغاني مهيار الدمشقي )) التي قمت بأعدادها وأخراجها عن مجموعة شعرية تحمل العنوان نفسه للشاعر العربي الكبير أدونيس ، ثم مسرحية (( كلكامش ـ الرجل الذي رفض الموت )) والتي أُعدت مباشرة عن ترجمية سويدية حديثة للملحمة السومرية وقُدمت بوصفها مسرحية موسيقية . ومسرحيات أخرى قمت بأخراجها مثل مسرحية (( أنا ملك مالمو )) للكاتبة فانيا أيساكسون عن العلاقة بين الأنسان والمكان عند المهاجرين . ثم مسرحية (( مشعلو الحرائق )) لماكس فريش وقدمنا فيها رؤية أستشرافية لحرائق الأرهاب التي أمتدت الى أوربا عبر دروب النفط والتعصب الديني والهجرة .  ونحاول تقديم مسرحيات ومواضيع تتحدث عن مستقبل الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين الذين استوطنوا في أوربا ، من بينها عروض عن ما يمكن تسميته بتصادم الثقافات بين المهاجرين والمجتمعات التي يعيشون فيها ، وذلك ما أتضح أكثر مع تفاقم التطرف الديني والقومي والسياسي في العقدين الأخيرين ، وتجسد ذلك مثلا بأخراجي لعروض مسرحية تنتمي الى مفهوم (( النسوية )) وتناقشه في ثقافتين مختلفتين . وفي هذا الصدد جاءت مسرحيتي التي كتبتها فانيا إيساكسون وأسمها ((Stilett / السكين والكعب العالي)) والتي كانت مشروعا مشتركا مع مركز الجزويت في الأسكندرية ، وهي مسرحية عن مستقبل العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة ، والمتغيرات التي يفرضها العصر على جسد الشريك . هل نملك جسد شريكنا ، وهل نمنحه جسدنا وحريتنا الشخصية ؟ هل يمتلكنا أم نمتلكه ام انه محض وهم عاطفي ؟  كما أن مواضيع أخرى راهنة في مجتمع المهجر تحتل أولوية قد لا ترقي لها في عروض المسرح المحلي في البلدان العربية ، مواضيع تتعلق بتأرجح وتنوع أنتماء الفرد لثقافته ، دينه ، وطنه ، عائلته ، عمله  وذاته .  وما تتعرض له تلك الأولويات من أضطراب بعد أن يهاجر المرء من أقاصي قارة الى أقاصي قارة أخرى ليعيش فيها حياة مغايرة؟
 نبحث حاليا في دوافع وأسباب ونتائج إنخراط أعداد من المهاجرين من الجيلين الأول والثاني في التنظيمات الأجرامية التي تمارس السرقة والأعتداء والتهريب والمتاجرة بالمخدرات ، نبحث في دوافع الجريمة وتبعاتها ، هل الجريمة فعل فردي محض ام أنها فعل فردي نتج عن قصور في الرعاية الأجتماعية ، وكيف يمكن أن تكون الجرائم الكبيرة نتيجة لأخطائنا الصغيرة مجتمعة . فيما تظل فكرة الصراع الداخلي بين الهنا والهناك ، ثيمة مركزية في كثير من عروض المسرحيين العرب في المهجر ، ومن بينها مسرحيتي  (( جئتُ لأراك I came to see you   )) التي أخرجتها مديرة المسرح البلدي Petra Berylander  وكان هذا النص قد فاز بجائزة التأليف في مسابقة الهيئة العربية للمسرح في الشارقة عام 2011 . ومثلها ممثلون سويديون وعرب ، وبعد عرضها في مالمو حظيت بالكثير من الأهتمام في الصحافة المحلية وأستضافها المسرح الوطني في ستوكهولم على واحد من أهم مسارح العاصمة السويدية  2015، ثم قامت الأذاعة السويدية بتحويلها الى عمل درامي إذاعي  2016 ثم أستضافها مهرجان الصيف الفني والثقافي في مالمو 2017 . 
كل تلك الأمثلة وغيرها كثير توضح مستوى التحدي الذي تواجهه عروضنا المسرحية في المهجر وهي تبحث عن ممكنات الأستجابة والتلقي في المجتمعات البديلة التي حلت بها . حيث  لايجوز لتلك العروض أن تبقى أسيرة مفهوم الهجرة بوصفها تراجيديا عارمة والبديل الوحيد المتاح في مواجهتنا مع الموت والأقصاء والقهر ، ولا بوصفها أستجابة قهرية لضغط الآخر القوي الذي يغريك بمنجزاته المتقدمة ، بقدر ما هي رحلة ذاتية داخلية أكثر من كونها رحلة في واقع فيزيائي . رحلة مشوّقة ومحفوفة بالمخاطر تسعى فيها نحو الضفة الأخرى لكنك تحل في ضفة ثالثة . 
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المسرح البلدي في مالمو ـــ السويد
** (ويلي من البين ماذا حلَّ بي وبها …من نازلِ البين حلَ البينُ وأرتحلوا )   من قصيدة يا حادي العيس .. المُختلف في نسبها. 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون