جمعية النقاد الاردنيين تقيم ندوة "قراءات نقدية في شعر المقاومة".
2024 ,16 آب
صوت العرب:الاردن.
ضمن نشاطاتها الدورية،اقامت جمعية النقاد الاردنيين ندوة بعنوان"قراءات نقدية في شعر المقاومة"، شارك فيها كل من "د.محمد عبيد الله"،و"د.عمر العامري"،و"د.عباس عبدالعليم"، وادار اللقاء "د.يوسف ربابعة"، وذلك في مقر رابطة الكتاب الاردنيين.وننشر ملخصات لما قدمه الاساتذة المشاركين.
د.عمر العامري: سيمياء الهُويّة في شِعر المقاومة الفلسطينيّ، "بطاقة هويّة" لمحمود درويش أنموذجًا.
مدخل:
لما كانت اللغة إحدى أهم المرتكزات والمواهب الرّبانية التي خُصّ بها الإنسان من بين سائر المخلوقات، فقد وظّفها في مناحٍ شتّى،أبرزُها التواصل والتخاطب والمواجهة التي تطورت إلى شكلٍ من أشكال الحِجاج، والمقارعة،والرّفض، والمُقاومة.ويشمل مفهوم المقاومة، هنا، كل أشكال الممانعة والتصدي بما فيها مقاومة الظواهر الوجودية وليس انتهاء بالمقاومة بحسبانها مصطلحا قارّا يفضي إلى الرّفض والاحتجاج على الأنظمة الفاسدة والمستبدّة والظالمة، واللجوء إلى أساليب الكفاح والنّضال كافّة، لدرء العدوان وإزالة الاحتلال والاستعمار وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم، ونيل الحريات، وهو ما يتفق مع القوانين الدولية وتؤيده الشرائع الإنسانية.
إن أدب المقاومة ليس أدبًا نابعًا من ترفٍ إبداعيّ، بقدر ما هو موقفٌ من الحياة والوجود بتجليّاته كافّة. كما أنّه ليس أدبًا طارئًا جديدًا، بل هو قديم قدم ما وصلنا من الشّعر الجاهليّ القديم، ولعلّ أبرز ما يمثل هذا النّمط من الرّفض والاحتجاج هو شعر الصّعاليك، الذين تمرّدوا على أعراف القبيلة وعلى الظروف الاجتماعية والفقر بحثًا عن حياة تليق بهم وتمنحهم حقوقَهم، وتنضو عنهم ثوبَ الاغتراب، وتعترف بهم عنصرًا فاعلًا ومقدّرًا، في النّسيج المجتمعيّ الذي ينتمون إليه.
ولما كان الأديب جزءا لا يتجزأ من نسيج مجتمعي كبير، فإنه متصل، بوجه من الوجوه، بقضايا أمته ومجتمعه وبهمومهما وطموحاتهما وتطلعاتهما... فالأدب الحق ليس محض تهويمات جمالية في فضاءات مطلقة لا تفضي إلى شيء سوى الجمال، وإن كان هذا الجمال عنصرا لازبا وركيزة ثابتة في كلّ فن من الفنون ولا يمكن إغفالها. 
وفي هذا الصّدد يقول الناقد الإنجليزي كولَردج "الأدب نقد للحياة" وهذه العبارة، كما يقول عز الدّين إسماعيل، هي "أوّل عبارة قد أحكمت الرّبط بين الأدب والحياة...فالنقد يقتضي أولا الفهم، ومن ثم صار الأديب مطالبًا بأن يتفهّم الحياة قبل أن يكتب ما يكتب" (عز الدين إسماعيل، ص373).
إن "الجدل حول قضية الالتزام هو، في صميمه، جدل بين الأيديولوجية والفن، ومنشأ هذا الجدل- في صورته المبسّطة- هو أن الإيدلوجية تمثل تفكيرًا أو موقفًا فكريًّا محددًّا، في حين أنّ أفْق الفن طليقٌ لا يمكن أنْ يُحدّ. وإخضاع الفنّ للإيديولوجيا إذنْ معناه إخضاع المطلق للمحدود أو الحرّية للقيود." (عزّالدين إسماعيل، ص377) ولعلّ هذا السبب هو الذي حدا بمحمود درويش لأن يضيق ذرعًا بجمهوره الذي ظلّ يلحّ عليه في كلّ أمسية أو مناسبة لكي يقرأ قصيدة "بطاقة هُوية" التي يرى أنّه تجاوزها فنيا إلى رؤى وجوديّة أعمقَ وأبعدَ، وآفاقٍ أوسعَ وأرحبَ في فضاءات الشّعرية والحداثةِ وما بعدَها، حتى إنّ هذا الضّيق قد امتد ليطال النقادَ حين يقول في إحدى قصائده (اغتيال، درويش، أثر الفراشة): 
يغتالني النّقاد أحيانًا: يريدون القصيدة ذاتَها
والاستعارة ذاتها…
فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً
قالوا: لقد خان الطريقَ
بين يدي القصيدة:
تبدأ القصيدة منذ عتبتها الأولى التي تعد موازيا نّصيًّا paratext)) مهمّا يضيء عتمات المتن الشعري ويسهم في تلقيه واستقباله، تبدأ بالإفصاح عن نيّة الشّاعر في تقديم ما يمكن أن نسمّيه بيانًا يعلن فيه عن هويّته التي تقتضي اختلافه وتميّزه عن الآخر واستقلال شخصيته. 
وتعد الهوية أحد الأسئلة المركزية الكُبر في شعر محمود درويش، وقد بدت بارزة في غير قصيدة، على رأسها القصيدة موضوع الدرس، وقصائد أخرى مثل "عاشق من فلسطين، "على هذه الأرض"، "عابرون في كلام عابر" وقصائد أخرى. فهي هويات أربع كما يحدّدها إلياس خوري: العربية، والفلسطينية، والكونية، وهوية الآخر. 
ومن الجدير بالذكر أن ثمة عُلقة واضحة جدًّا بين العتبة النصية والمتن الشعري، فالدلالة الكلية المكثفة المتوارية في العنوان تكاد تتشظى إلى دلالات أكثر انكشافا ووضوحا في المتن الشعري، من هنا جاءت هذه المداخلة لتتبع سيمياء الهوية وتجلياتها في هذه القصيدة، فكان الحديث عن سيمياء المحو والكتابة، وسيمياء الزمن، وسيمياء الصورة، وسيمياء الهوية المضادة، وسيمياء الصمود والتحدي.
د. محمد عبيد الله:شعرية المقاومة بين الغنائية والدرامية في نماذج من الشعر الفلسطيني الحديث.
يمكن الانتباه إلى تحولات الحياة الفلسطينية، وإلى صور من التراجيديا (المأساة) التي عصفت بتلك الحياة على مختلف الأصعدة، فأنتج ذلك ظواهر معقدة، مثلما تطلب معالجة شعرية مختلفة، أدت إلى الإسهام في تطوير الشعر بصيغته الغنائية، وذلك من خلال استنهاض طاقات القصيدة ودفعها إلى مناطق قصوى ليمكنها التعبير عن تلك الحالات والمواقف والأحداث المؤثرة المرتبطة بما ترتب على احتلال فلسطين وتهجير أبنائها، وما صاحب الثورة الفلسطينية المعاصرة من صعود وهبوط، وآمال وآلام، فذلك كله تطلب الخروج أحيانا من أسر القصيدة الغنائية للوصول إلى صيغ شعرية جديدة تستجيب لاتساع المعاناة ولما هو أوسع مما يقع ضمن إمكانات الصوت الغنائي.
ويمكن أن نستجلي التحول من الغنائية إلى الدرامية عند عدد من الشعراء الفلسطينيين البارزين، ممن لجأوا إلى ضروب من الخصائص الدرامية، دون أن يتخلوا عن الغنائية تخليا تاما، وهذا ما يؤكد أن الدرامية الشعرية درامية منتقاة، جاءت لإثراء الشعر الغنائي، ولتوسيع آفاقه، وليس للتخلص منه، أو هجرته إلى نوع جديد، ذلك أن الغنائية ضاربة الجذور في الشعر العربي ويصعب النظر إليها بهذه الصورة الحادة من التحول أو الانتقال. أما الشعراء الذين نتناول صورا من الدراما في شعرهم فهم: معين بسيسو، محمود درويش، عز الدين المناصرة، وليد سيف. مع التأكيد أن هذا المنحى من جدل الغنائية والدرامية اتجاه يكاد يظهر بصور متفاوتة في إنتاج معظم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين، ويمثل خصيصة كبرى من خصائص الشعر العربي الحديث بأسره.
أولا: معين بسيسو 
قد يكون معين بسيسو (1927-1984) من أهم الأصوات الشعرية التي تنبهت إلى إمكانات الدراما مبكرا، ويعود ذلك إلى اهتمامه بالمسرح والشعر المسرحي، إلى جانب تجربته الشعرية المعتبرة، ونتيجة لهذه الخبرة فقد أفاد من وعيه المسرحية في تجويد شعره وتطويره، ومن ذلك توظيفه لشخصيات صريحة مرتبطة بالمسرح، كما  في قصيدة (يوميات ملقن مسرح)، ومركزها هذه الشخصية المسرحية التي تدل على وظيفة هامشية في عالم المسرح، لكن الشاعر استثمر هامشيتها ليطلق لها حرية القول في قصيدة تامة. وأما لفظة (يوميات) فتعني ضربا من تسجيل التفاصيل اليومية، وهي ضرب من أنواع الأدب الشخصي كالسيرة والمذكرات، ولا يخفى ما تشير إليه من الطبيعة السردية.
بنى معين بسيسو القصيدة على مبدأ (اليوميات)، ليكون مرتكز بناء القصيدة، وصاحب اليوميات ليس الشاعر وإنما (ملقّن المسرح)، أي شخصية مستقلة عن الشاعر لها طبيعتها الموضوعية، ولها بناؤها وصراعها الناشئ عن تلك الهامشية، فهي قريبة من المسرح وبعيدة عنه في آن، تتواصل مع الممثلين وتساعدهم دون أن ترقى للانضمام إليهم، فخصص الشاعر فقرة شعرية لكل يوم من أيام (الملقّن)، وكلها يوميات للشخصية المختارة، ملقن المسرح، وهو شخصية معروفة للعاملين في المسرح، شخصية هامشية لا تظهر على المسرح، ولكنه يتابع أداء الممثلين وإتقانهم للنص، وإذا ما نسي الممثل دوره ساعده الملقن بالجملة المنسية من وراء الستار. استيحاء الشخصية بالتأكيد جاء إلى عالم معين من واقع خبرته بالمسرح فهو مسرحي إلى جانب تجربته الشعرية.
محمود درويش:
يمثل محمود درويش (1941-2008) الصورة الأعلى للغنائية في العصر الحديث وفق كثير من القراء والنقاد، ولكنه لم يقصر شعره على ما نعرفه من غنائيته، بل اجتهد في بعض مراحل شاعريته في التخفيف من غلواء الغنائية، عبر ضبطها وتضييق مساحتها، فعمد إلى بعض التجارب الدرامية المبكّرة التي أدت إلى إطالة القصيدة واتجاه الشاعر إلى ضرب من المطولات، مثل: قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا)، وقصيدة (الأرض)، وقصيدة (أحمد الزعتر)، وقصيدة (جندي يحلم بالزنابق البيضاء)، وصولا إلى مراحل أشد تعقيدا في قصائد لاحقة مثل: خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض، وديوان (لماذا تركت الحصان وحيدا)، وقصائد الأقنعة في دواوينه الأخيرة، إلى جانب قصيدة (طباق) المتعلقة بشخصية الراحل إدوارد سعيد وغيرها الكثير.
طوّر درويش طريقة خاصة في بناء القصيدة على شخصية مختارة لها مساس أو أثر في الحياة الفلسطينية، كأن يكون بطلا أو شهيدا، أو نحو ذلك، وكثيرا ما يعمد إلى تجاوز الحدود الواقعية للشخصية نحو أسطرتها للالتحام بالمأمول من تطلعات الإنسان الفلسطيني. كما طور أساليبه للاستعانة بالحوار في كثير من قصائده، ولعل الحوار عنصر رئيسي على سبيل المثال في عمله المعروف (لماذا تركت الحصان وحيدا) فهو يتحاور مع نفسه ومع والده، ومع جده، ومع أمه، فيما يشبه تأمل السيرة الذاتية برؤية موسعة، تجعل منها سيرة فلسطينية منفية، مثلما يحاور أو يجادل المحتلين والأعداء. وهذا الحوار مع الآخر العدو إحدى خصائص شعر درويش الموضوعية، التي اقتضت منه أن يكون دراميا في هذا المنحى، ذلك أن الصراع المتصاعد والمتأزم من خصوصيات الدراما التي يمكنها التعبير عنها بأفق مفتوح.  
عز الدين المناصرة:
تشرّب عز الدين المناصرة (1946-2021) التوجّهات الدرامية إلى جانب العديد من خصائص الملحمة، ودمجها في سياق اجتهاده في كتابة قصيدة جديدة ووفية في الوقت نفسه لهواجس التجربة الفلسطينية ونزعاتها وتعقيداتها التي كان شاهدا من شهودها في مختلف مراحل حياته. ولذلك فإن عمله النثري المبكّر (كنعانياذا) بمقدار ما يشفّ عنه من عناصر ملحمية فإنه مفتوح على الدراما وعلى القصيدة الغنائية الرعوية التي تستحضر الحضارة الكنعانية الزراعية برموزها ومكوناتها المختلفة. 
ومن الطرق التي تظهر فيها الخيوط الدرامية في تجربته ما عمد إليه من تصعيد الشخصيات الواقعية أو ذات الأصل الواقعي إلى مستوى الرمز والأسطورة، فعل ذلك في تقليباته وتنويعاته على شخصية (جفرا) فمرة هي الحبيبة، ومرة هي الأم، ومن شخصيتها الأمومية تولد شخصيتها الأعلى وذلك حين يجعل منها رمزا لفلسطين كلها في مستواها الأعلى، مضفيا عليها صفات تمكنها من خوض الصراع مع العدو والاحتلال، ومن أن تقاوم وتناور وصولا إلى أمل التحرر والانتصار. 
ومن القصائد الدرامية في تجربته قصيدته (كيف رقصت أم علي النصراوية: سيناريو المشهد). وقد استحضر فيها شخصية واقعية تاريخية معروفة لفلسطيني لبنان بوجه خاص، فهي أم الشهداء التي فقدت بنيها وودعت شهداء في ركب الثورة، ثم صارت أما للفدائيين جميعا، تودع الشهداء وتعتني بالأحياء، وتشارك في المظاهرات، وفي المواجهات، وترقص و(تهاهي) وتغني بما يتلاءم مع الظرف الفلسطيني الخاص. إنها شخصية درامية جاهزة بمكوناتها الواقعية التي نتجت عن دراما الوضع الفلسطيني، وقد بنى الشاعر قصيدته على قصتها وقوة حضورها وعلى غنائها ورقصها، فأنتج ما يشبه السيناريو الشعري المؤثر، بما فيه من حركة ومن احتفالية خاصة، وعندما أنشد القصيدة اكتشف أنها تحتاج إنشادا خاصا مع هذه المكونات المتنوعة ومع طبيعة السيناريو بين الهبوط والصعود، والارتفاع والانخفاض، وتمثيل أصوات الترتيل مع المقاطع الغنائية المستوحاة من الغناء الشعبي الفلسطيني، إنها قصيدة هوية درامية بامتياز، في تركيزها على الشخصية وعلى التوتر العالي الناتج عن الحركة المتواترة فيها، وقد انعكس ذلك على طريقة أدائها أداء تمثيليا دراميا مهما أتيج لنا أن نستمع إليه في بعض المناسبات.
وليد سيف: 
قدم وليد سيف (1948) تجربة شعرية مهمة من ناحية الاجتهاد في كتابة قصيدة حديثة تتميز بالانفتاح على المناخات الدرامية والملحمية، خصوصا في ديوانه (تغريبة بني فلسطين) 1979، وفيه ثلاث قصائد طويلة: تغريبة زيد الياسين، سيرة عبد الله بن صفية، مقتل زيد الياسين على طرف المخيم). وكتب بعد هذه التجربة قصيدة طويلة لم تظهر في ديوان عنوانها: البحث عن عبد الله البري. 
وأما موهبة وليد سيف الدرامية فموهبة غير خافية، ولقد تجلّت في اتجاهه لكتابة الدراما التلفزيونية، مما مكنه من الانتقال من الشعر بحدوده الغنائية والدرامية الضيقة نسبيا، إلى مساحة موسعة يمكنها أن تحمل وعيه الدرامي. وقد يكون سيف أهم صوت شعري فلسطيني أنجز قصيدة درامية بمواصفات فنية متقدمة وبإحساس درامي عال، بالرغم من عدم التخلي عن تلك الكثافة الغنائية التي يصعب أن تتخلى عنها القصيدة الحديثة بل الشعر بشكل عام. فحتى في الشعر الدرامي الكامل (المسرحي) يظل الصوت الغنائي وشبه الغنائي حاضرا في تلك المونولوجات التي تشكل تنويعا عاطفيا وذاتيا يعمق معنى الدراما ويطبعها بطابعه.
تتشكّل الروح الدرامية في قصيدة وليد سيف بطريقة قصصية، من خلال تعدّد الأصوات، وتنوع ضمائر السرد، أي أنها تأخذ شكلا قصصيا يتشرب روح الصراع الذي يحيط بالإنسان الفلسطيني، وهو صراع يتعدد فيه الأعداء ويتكاثرون، ولا يقتصر على العدو الصهيوني وحده، فهناك قوى التخلف العربي والرجعية التي تحد من نضاله، فزيد الياسين يظهر حبيسا قيد التعذيب في سجن عربي، لا صهيوني، وصراعه في القصيدة مع المخبر والسجان أكثر مما هو مع عدوه الرسمي، ومع ما يتعرض له من تعذيب فإن القصة تجنح إلى بعثه عبر أسطرته ليغدو متعددا لا واحدا، ولا شك في أن هذه الحلول الأسطورية هي إحدى السمات الملحمية، إذ يغدو بطلا خارقا بمكنته التجدد والانبعاث، رغم أنه قضى واقعيا تحت سياط الجلادين، وعصي رجال الأمن الساديين. كذلك تتيح القصيدة ضروبا من الحوار الدامي بين الشخصيات، وتستعمل ألوانا من حديث النفس أو المونولوج، تبعا لطبيعتها الدرامية والقصصية، وتصعد مواجهة حادة بين الماضي والحاضر من خلال استحضار التاريخ ومساءلته والبحث فيه عن بذور لأزمات الحاضر، أو حلول لها، فالتاريخ سجل حافل بالعبر والهفوات في الآن نفسه. كما نجد ألوانا من الثقافة الشعبية كتوظيف الحكاية، والأغاني الشعبية، ونحو ذلك من ألوان "الفلكلور" وتكفل هذه المواد للقصيدة أفقا جماعيا يتمثل في استحضار ثقافة الجماعة، وفي توسيع أفق القصيدة وربطها بمرجعيتها الثقافية، كأنما تعزز هذه العناصر التي ترتبط بالهوية الوطنية والجماعية، فزيد الياسين أو عبد الله بن صفية أو عبد الله البري ليسوا شخصيات مميزة بصفتهم أفرادا، وليسوا أبطالا أسطوريين لأسباب ذاتية، بل هم ممثلون عن الجماعة الثورية الفلسطينية بأسرها، إن كل واحد فيهم رمز للفدائي وللثائر بصورته النبيلة العالية، ولذلك فإن خضرة، أو المرأة أو المحبوبة التي كثيرا ما تظهر في مثل هذه القصائد ليست في المقابل إلا فلسطين التي تغذ خطاها نحو الحرية.
لقد أسهم الشعر الفلسطيني في تطوير القصيدة العربية الحديثة، من خلال اجتهاده في التعبير عن تعقيدات التجربة الفلسطينية واستلهام كثير من وقائعها وشخصياتها، والارتفاع بها من خلال طاقة الرمز والأسطورة إلى مستويات فنية تعكس ثراء الواقع، وتتطلع إلى رسم المستقبل الذي لا يتخلى عن حلم التحرير والعودة مهما تكن التضحيات جسيمة.
وقد مزج الشاعر الفلسطيني بين الغنائية والدرامية، بل حاول شيئا من الروح الملحمية، ليمكن للقصيدة أن تتسع وتمتد إلى ما هو أبعد من تجربة الذات ومناخاتها العاطفية، أي أن الدواعي الموضوعية والانتقال من الذات إلى الجماعة أحد المحركات والمؤثرات التي أسهمت في تطوير تقنيات وتوجهات جديدة اقتضت هذا الجدل بين الغنائية والدرامية، ومنحت من خلال ذلك طوابع كثيرة ميزت القصيدة المعاصرة من بينها: توظيف الشخصيات والتقنيات المسرحية، والاهتمام بكرنفالية القصيدة وحركتها الجماعية، وتوظيف الأقنعة التي يتحدث الشاعر ضمنيا من ورائها، إلى جانب استخدام الأساليب والتقنيات الحوارية والسردية، مما نقل القصيدة المعاصرة إلى مناطق جديدة على المستوى الرؤيوي والأسلوبي. 
د.عباس عبدالحليم عباس:شعر المقاومة الفلسطيني وخطاب المثاقفة العالمي.
لقد عرفناعن طريق أدب المقاومة العديد من رموز الحركات الثورية والتحررية في العالم من أدباء وغيرهم ، فعرفنا المهاتما غاندي ، وسنغور ،  وماياكوفسكي ،  كاسترو، و مانديلا ، وماوتسي تونغ ،  وجيفارا ، وسارتر ....حيث (( يدرك شعر المقاومة التزامه بحركة المقاومة في العالم ، التي هي في نهاية المطاف المناخ الذي تنمو داخله الحركة الثورية المحلية ، تؤثر به وتتأثر منه . فما بين أيدينا من أدب المقاومة يلفت نظرنا بصورة مدهشة لكمية ونوعية الإنتاج الذي يغنّي لثورات العالم وقضاياه الحرة ، وقد تلخص لنا قصيدة لمحمود درويش عنوانها ( أناشيد كوبية) جوهر هذا الالتزام ومعناه .. في إطار العلاقة الأممية المشار إليها هنا : 
أنا لم ألمس قصب السكر 
والأرض الخضراء 
لم أركب قارب صياد في البحر الكاريبي
لم أشرب قطرة ماء
لم أنزل فندق سياح غرباء 
لم أسكر في هافانا من عرق الفقراء
لم أغمس قلمي في جرح البؤساء المحرومين
لكن عندي من كوبا أشياء وأشياء
فكلام الثورة نور
يقرأ في كل لغات الناس
ونشيد الثورة لحن تعرفه كل الأجراس 
والراية في كوبا
يرفعها نفس الثائر في الأوراس)) 
لقد مثل أدب المقاومة العربي في اتصاله بالأدب  الحديث ، أو بالأدب العالمي – شرقا وغربا - مرآة تعكس نضال شعب ومعركة أمة ، وغدا شعراء المقاومة وكتابها معلمي الأمة ، الذين عززوا ثورة أبنائها بالثورات الشقيقة في العالم ، واتخذوا    من هذه الحركات والثورات دوافع للاستمرار في العمل الثوري ، والتعزي به كلما اشتد ظلام الاحتلال ، وكلما ضاقت القيود حول المعاصم . وفي هذا السياق لا يمكن أن نغفل دور الأدب الإسلامي في  المساهمة بتعزيز مفهوم المقاومة من وجهة نظره الخاصة ، وفي مد جسور الأخوة بين أمة العرب والمسلمين ، والشعوب الإسلامية خارج أسوار وطننا العربي في سراييفو، والبوسنة والهرسك وكشمير وبورما ... والعديد من بقاع الأرض ، حيث الأقليات المسلمة التي تعاني أمرّ العذاب من أنظمة طاغية تجردت من معاني الإنسانية ، واتخذت جرائم الإبادة البشرية الجماعية سبيلا للتعامل مع هذه الأقليات . فبرز مجموعة من الشعراء المنادين بإنسانية رسالة الإسلام وعالميتها، وأخوة الشرق والغرب ، يذكّرون العالم بمفاهيم التسامح والتآخي ، ومن هؤلاء الشعراء سيد قطب ، وأحمد محرم ، وعبد الرحمن العشماوي ، وعبد السلام ياسين ، ونبيلة الخطيب ،  ومحمد التهامي وغيرهم . ولعل أبرز الموضوعات والقضايا التي أثارها أدب المقاومة الملتزم في إطار التثاقف والتواصل مع فكر المقاومة العالمي تتمثل في  :              
أولا : الحرية :
 فهي مطلب مقدس ، وهذه الثيمة تكاد تطغى على شعر المقاومة في كل مكان وزمان ، فالمقاومة أصلا عمل ثوري وإنساني يهدف إلى تقديس الحرية والمطالبة بها للأفراد والشعوب دون أي شروط ، وقد استطاع أدباء المقاومة تعزيز هذا الإحساس لدى المثقفين وغير المثقفين ، تقول فدوى طوقان في قصيدة (حرية شعب) من ديوانها (الليل والفرسان /1969) : (8)                             
حريتي ...حريتي ...صوت أردده بملء فم  الغضب 
تحت الرصاص وفي اللهب
والضفتان ترددان :حريتي !..ومعابر الريح الغضوب 
والرعد والإعصار و الأمطار في وطني ...ترددها معي
 حريتي..حريتي..
ثانياً:  المشاركة الإنسانية والعالمية.
حيث أدرك مثقفو المقاومة وأدباؤها أنّ صوت المقهورين في العالم صوت واحد، لذا خاض شعراء المقاومة (إلى جانب معركتهم مقاومة المحتلين الصهاينة) معركة أخوة الشعوب والتضامن الأممي، إيماناً منهم بالصلة العضوية الحية بين معارك الشعوب وكفاحها، فالمعركة التي تخوضها الإنسانية هي دائماً عامة بمساحتها ومضمونها. وقد قوّى هذا النزوع لديهم ، إلى جانب الروح الإنسانية من ناحية ، إدراك الجميع محاولة الحكام الصهاينة (فرض عزلة قتالة على شعبنا لتيئيسه وجعله لقمة سائغة لسياستهم) يقول توفيق زيّاد: أرادوا عزلنا لا عن الشعوب العربية فحسب، بل عن شعوب العالم، وبشكل أخص عن القوى الديموقراطية للشعب اليهودي الذي نعيش وإياه جنباً إلى جنب، بل وعزلة عن كل الفكر التقدمي الإنساني المتطور، العربي والعالمي... وفي مجابهة هذه الظروف، وإحساساً بالحاجة الشديدة إلى تأييد كل القوى الديمقراطية في العالم لكفاحهم، قام شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة بمهمة تثقيف شعبهم وتثبيته بهذه الروح الإنسانية، لتعميق وعيهم وتصحيح رؤيتهم  في الحياة، باعتبار حركة التحرير في العالم المناخ الذي تنمو فيه الحركة الثورية المحلية وتتبادل معه التأثر والتأثير )). (9)(
الذي نعده  - دون شك – أحد أبواب التثاقف والتفاعل الحضاري، الذي اطّلعنا من خلاله على تجارب شعوب العالم في الكفاح ضد الأنظمة القمعية والإمبريالية من ناحية، وتمكّنا من إيصال صوتنا وقضيتنا لهذه الشعوب وضمائرها من ناحية أخرى.  وها هو الشاعر حنا أبو حنا يقول في قصيدة (أنشودة افريقيا):
هناك حيث تداس القيود
ويُركل نير مئات السنين 
وينتصب العبد حراً قويا
ويكتب في سفر زحف الشعوب
مفاخر عزم كفاح مبين
ويقول:
لـ "مومبا" نداء بعيد الصدى
يدوّي بأفريقيا الهادرة
ورمز إباء يثير الكرامة
تدفق في الهمم الغائرة
وإنّ دماء الشهيد لزيت
على مشعل الأمم الثائرة
وأفريقيا
منذ روتها الضحايا
ستورف دوحتها.... ناضرة!
ومومبا بطبيعة الحال قائد ثوري ومناضل أفريقي
ويكرر حنا أبو حنا  كثيراً من  تنويعات موقفة الأممي هذا في قصيدة (في هافانا) وقصائد أخرى.
ولا ننسى شاعراً  مهما من شعراء المقاومة هو راشد حسين الذي يقول في قصيدة (آسيا لن تموت):
               زرعـت ديار أمته قبــورا                    فكيف تريده إلاّ يثــورا
               ويعلـم أنه الموت ســارا                    معا... لما تعمد أن يثـورا
               وليـس بمحجم عمـا انتواه                   ولو رصفوا نوافذه صخورا
              إذا لــم تفتح الأزهـار فاها                   فكيف نشم في الدنيا عبيرا؟
               وإن لم يحصد المظلوم عدلاً                   فكيـف تـريده ألا يثـورا؟
 
فالقصيدة خطاب مفتوح لكل قوى الظلم والاستبداد في العالم، ورفض صارخ لسياسة القهر والعبودية، وموقف ثابت لا يحيد عن قيم الحرية والعدالة....
القصيدة برغم زمنها المبكر "بيان للنضال أينما كان ضد المستعمرين والظالمين، (19)
ونقرأ أيضاً (لتوفيق زيّاد) قصائد (كوبا) (وثلاث أغان لناظم حكمت) شاعر تركيا ومناضلها، حيث ترجّم زيّاد معظم قصائده المقاومة الى العربية، مثلما فعل بعدد من عيون قصائد المقاومة في الشعر الروسي.
ويبدو أن شعراء المقاومة في تثاقفهم مع صوت المقاومة في العالم - وأبرز حالة هنا حالة الشعر الفلسطيني المقاوم - ينزعون إلى تأكيد ضرورة التثاقف الحر، بعيداً عن التثاقف المبني على التبعية، هذا التثاقف الذي يقوم أنصاره بالتعامل (مع النصوص الأورو- أمريكية، على أنها روائع أدبية عالمية،  في حين يرفضون التعامل مع نصوص أدبية قادمة من أوروبا الشرقية والصين واليابان والوطن العربي وإفريقيا، بصفتها أنماطاً أخرى مختلة، فهم يقفون عملياً مع إيديولوجيا التبعية، وضد إيديولوجيا التعددية)).
هذه التعددية التي حرصت الأجيال التالية من شعراء المقاومة على نشرها، وحرصت على جعلها خياراً إنسانياً يستندون إليه في رؤيتهم لذواتهم وقضيتهم، ورؤيتهم للعالم كذلك ، ولا سيما عند شعراء لم يقفوا عن حدود المحلية، بل تجاوزوها إلى العالمية وفي مقدمتهم محمود درويش الذي جاب حسّه الكوني والأممي ثقافات العالم، ليؤسس حول قضية فلسطين، قضية العرب والعالم الحرّ حوارية فذة، مع ثقافات عالمية متعددة، حتى مع الثقافة الإسرائيلية نفسها، ففي حوار  معه، وضّح محمود درويش أن بعض قصائده نشرت في بعض المناهج المدرسية الإسرائيلية، وأضاف أن رئيس وزراء اسرائيل (أرئيل شارون) قال: (( أنا أميّز بين الإبداع والسياسة.... أنا أقرأ حتى محمود درويش، وأنا معجب بديوان (لماذا تركت الحصان وحيداً؟) لأن هذا الإعجاب قادني إلى الإعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه))(13)
ولو تفحصنا بعض نماذج شعرية لمحمود درويش – وهو ليس الوحيد في هذا السياق، لكن على سبيل المثال لا الحصر – لوجدنا المؤثر العالمي في الفكرة والفلسفة والمفهوم المتضمن في القصيدة المقاومة لديه يضعنا أمام ((تجربة شعرية متنامية باطّراد نحو القيم الجمالية الجديدة، ونحو السمات الفنية المتقدمة، وباتجاه شفافية الفكر الشعوري ونبض المرحلة وحرية الإنسان، فطوّع السياسي للشعري وارتقى برؤاه إلى الحكمة الإنسانية وإلى جماليات الأصالة والحداثة والمعاصرة)) (14)
كما في قصيدة (لوركا):
عفوَ زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك
وصليب يرتدي نار قصيدة
أجمل الفرسان يحجون إليك
بشهيد وشهيدة
........
وهكذا الشاعر , زلزال.. وإعصار مياه
ورياح , إن زأر
لم تزل إسبانيا أتعس أُمّ
أرخت الشعر على أكتافها
وعلى أغصان زيتون المساء المدلهمّ
علقت أسيافها !
فدرويش يربط بين شاعر المقاومة الإسبانية (لوركا) وشاعر المقاومة الفلسطينية... والشهيد الفلسطيني مع الشهيد في العالم أجمع.... إنه ينظر إلى تجارب المقاومة، والتحرر، والدم ....بما يجمعها من أممية، عالمية، إنسانية.... إنه الانفتاح على حضارة الآخر، وعلى إنسانيته، وتجربته ومعاناته.
وهي التجربة والمعاناة ذاتها التي يراها درويش في عذابات إفريقيا التي أنشدها في قصيدة (أغنيات حب إلى إفريقيا):
هل يأذن الحراس لي بالغناء
فوق القبور البيض بإفريقيا؟
..............
هل يأذن الحراس لي بالاقتراب 
من جثة الأبنوس.... يا إفريقيا؟
........
واختبأ السحاب في صدرك العاري
والطريق إلى النهار
يمحو ملامحنا ويتركنا بعيد الانتظار 
صفاً من الأشجار والموتى.
هذا على الصعيد الفني ، الذي اندغم مع الصعيد الإنساني الاتصالي ، حيث حرص أدباء المقاومة ، وفي مقدمتهم محمود درويش على بناء جسور من العلاقات مع الشعوب الأسيوية والإفريقية ففي ((عام 1974 تأسست الجمعية اليابانية لمؤتمر الكتّاب الإفريقيين والآسيويين ، وذلك بناء على دعوة من نخبة كتاب يابانيين ، منهم (كنزا بورو) الذي حصل على جائزة نوبل للآداب فيما بعد ، و( هيروشي نوما) الذي تولى رئاسة الجمعية . واستهدفت تلك الجمعية تبادل الآراء والتعاون بين الأدباء على المستوى الفردي بعيداً عن الدولة ، وفي السنة ذاتها عقدت هذه الجمعية المؤتمر الياباني – العربي للتضامن الثقافي في عدة مدن يابانية 
تحدثنا بإيجاز عن تفاعل شعر المقاومة العربي مع أدب المقاومة العالمي في مفهومي (الحرية، والأممية الإنسانية) وثمة مفاهيم فكرية وثقافية أخرى اكتسبها أدباء المقاومة ، وبثّوها في ثنايا المعرفة الراهنة والثقافة السائدة، لتندغم أساليب التفكير الجديدة في البناء الكلي لثقافتنا العربية المعاصرة.
وإذا عدنا إلى محمود درويش ، وجدناه يمثل حالة فنية نادرة وفذة في نظرتها (للآخر) ، وفي شرح علاقة الذات بهذا (الآخر / المحتل) "  الصهاينة الذين لا يمثلون في حياة الفلسطيني سوى عابرين ومارّين ومارقين.... 
(20) 
ايها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا اينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا اينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الاول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا... والاخرة
فاخرجوا من ارضنا
من برنا... من بحرنا
من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من مفردات الذاكرة
ايها المارون بين الكلمات العابرة
 
 
 
 
 
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون