ندوة الشعر النسائي الأردني : جدلية الحضور والغياب في المكتبة الوطنية .
2023 ,20 أيار
صوت العرب: الاردن.
أقيم في المكتبة الوطنية ندوة بعنوان " الشعر النسائي الأردني : جدلية الحضور والغياب "  بتتنظيم من جمعية النقاد الأردنيين بالتشارك مع المكتبة الوطنية ، شارك فيها كل من الدكتور راشد عيسى ، الدكتور مراد البياري والدكتورة مها العتوم وأدار الندوة الدكتورة نبال نزال . 
أرحامُ دواوينِ الشعرِ حُبلى بأسماءِ الشاعراتِ العربياتِ اللائي كنَّ على مدارِ تاريخِ الشعر توابلَ طيبةً تُضفي مذاقاً أرجوانيا على القافية العربية لتزدان جمالاً على جمال. 
هل حضورَ قصائدِهن له وميضٌ خافتٌ غائب؟ وإن كانت أسماؤهن لامعةً  حاضرة، كفدوى طوقان ومي زيادة ونازك الملائكة وسعاد الصباح ومريم الصيفي ونبيلة الخطيب ورانة نزال .. 
  لذا هل كان من الضروري أن تتأتّى أمسيتُنا بعنوانِها: الشعرُ النسائي الأردني جدليةُ الحضورِ والغياب؟
وهذا ما يثير تساؤلاتٍ جذريةً جدية :
فكرة الجدلية تحضر بين متناقضين الحضور والغياب ، فما الذي تعنيه هذه الجدلية ؟ هل الشعر النسائي حاضر بقوة كشعر الرجال؟ 
وأن ما قيل في النساء كثير، كأمثال عنترة في عبلة، والعذريين العاشقين في ليلى وبثينة، ونزار قباني المشهور بأنه شاعرُ المرأة.  
ثم كم هو حضورُ النساءِ الشاعراتِ من ذلك قديما وحديثا؟
في الوطن العربي عامة؟ وفي الساحة الأردنية بخاصة؟ 
هل هو الحضورُ المتغيِّبُ أم الحضورُ المهمَّش ؟  هل هو حضورٌ على استحياء؟
و كيف يكمن هذا الحضور للمرأة الشاعرة؟ 
ولو حضرت ما الذي تقدمه المرأة الشاعرة مغايرة عن الرجل الشاعر؟ ما الذي تقدمه في التجربة النسائية يناقض أو يوازي أو يماثل ما يكتبه الرجال ؟هل ثمة اختلافٌ بينهما ؟ 
لماذا الخصخصة في المصطلح: (الشعر النسائي)؟ هل يمكن أن نقول في المقابل (الشعر الرجالي)؟ و(الشعر البناتي)؟ و(الشعر الولادي)؟ وكأننا في مول كما علّق ابني عندما سمع ذاك المصطلح
فإذا كان كذلك فمن وجهة نظري أن الكتابةَ هي الكتابةُ، حالةٌ ‏إنسانيةٌ صرفة، وفعلٌ إبداعيٌ، له خصائصُه وسماتُه، لا يمكن التمييزُ فيه بين إبداع أنثوي ‏وإبداع ذكوري؛ فمقياسُ الإبداعِ هو الإبداعُ بعينه، وإنَّ تصنيفَ الأدب على هذا الأساس إنما ‏فيه إساءةٌ للمبدع سواء أكان رجلًا أو امرأة، فإن تقسيم الأدب شعرًا كان أو نثرًا تبعًا لثنائيّة الجنس البيولوجي يعدُّ ضربًا من العبث.
لكن يمكننا أن ندرسَ شعرَ المرأة ، أو لغةَ المرأةِ الشاعرة، أسلوبَها، مجالاتِ شعرِها، صورَها الفنية، بلاغتَها...إلخ  لأن المرأة تعبر عن هواجسها ورؤاها إنسانة أولا، وامرأة ثانيا، وشاعرة أولا وثانيا وثالثا. كما قالت الشاعرة مها العتوم.
وتقول لطيفة الزيات " إن في الأعمال الإبداعية أكتشفُ رؤيتي للحياة وأبلورها، أخلع أقنعتي فلا أبقي شيئا سوى وجه الحقيقة العاري. أبدد أوهامي عن الذات ستارا بعد ستار، أعلو على توجساتي ومخاوفي، أحس، أجرؤ، أنطق صدقا، ولو على ذاتي، أكون المرأةَ الخائفةَ المقدامة، الضعيفةَ القوية، الهشةَ الصلبة، المتمزقةَ بين العقل والوجدان، التي هي أنا، كتاباتي الإبداعية تَعرفني وتُعرّفني، وما يَصدقُ عليَّ يَصدقُ على كلٍّ امرأةٍ عربيةٍ مبدعة.
تبوح  الشاعرة الواعدة إيمان عبد الهادي عن مشاعرها عندما شارفت الثلاثين من عمرها ثم الأربعين- ونحن نعلم أن عمر النساء من الممنوعات المحرمات- تقول:
بعد عام..... إذن -إنْ حييتُ- أغادرُ هذي الثلاثينَ.... من غير عودةْ
لقد كنتِ طافحةً .... بالمودّةْ
يا سِنيَّ الكثيرةَ: بالحبِّ .... والرّعبِ، والأُنسِ  .... والحَدسِ، والكونِ  .... والحُزنِ، والمحوِ والصّحوِ، والدَّهَشَاتِ: بكلِّ يقينٍ  .... ورِدّةْ
سأكذبُ  .... سأكذِبُ مثل النّساءِ
لقد كنتِ أجملَ تسعٍ و(عشرينَ) وردةْ!
وتقول:
أمامَ الأربعينَ... رأيتُ عمري يسيلُ... على (الفَواتِ)... ولا يسيل
يُمَيّعُهُ ...المُضِيُّ... بلا جِهاتٍ
ويَعصِمُهُ الوُقوفُ المستحيلُ
وتُربِكُهُ... كطفلٍ نَرجسيٍّ.. رُؤاه
وطبْعُهُ النّزَقُ العَجولُ
لدفترِهِ الكبيرِ يدٌ وساقٌ 
فيكتب أيها السيلُ الجليلُ
إذن
هل عبرت الشاعرة عن تجربتها بحقّ؟ بصوتها، بتفاصيل حياتها؟ بكينونتها؟ بمشاعرها؟ بتجاربها المقهورة، بحبها الخجول، بقضايا مجتمعها؟
وإذا كتبت هل تكتب بأناقة؟ بوجع؟ بانتشاء؟ بتكشّح؟بسذاجة؟ بفرح؟ بخجل؟ بألم؟ بإبهام؟ بغموض؟ 
د.مراد البياري.
إنَّ دراسة النصوص الأدبيَّة ضمن قالبها اللُّغَوِيِّ مجالٌ ذو أهميَّة بالغة؛ فالوسائلُ اللُّغَوِيَّةُ المُستخدَمة في النصِّ الأدبي تُبَيِّنُ مدى قدرة الكاتب على توظيفها للوصول إلى مرحلة الإبلاغ في النص، ثمَّ إنّها تكشفُ مدى اتِّساع هذه اللُّغة وانفتاحها على المعاني التي يرمي إليها النصُّ؛ فاللُّغةُ مُكَوِّنٌ أساسيٌّ لأيِّ نصٍّ مكتوب أو مقروء، وهي الأُسُّ الذي يَختَبِرُ براعة الكاتب في أدائه اللُّغَوِيّ، وهي التي بها نتوصَّلُ إلى قصديَّة الخطاب في النصِّ؛ إذ إنَّ "العلاقة بين اللُّغة والقصد تُشَكِّلُ ركنًا أساسيًّا في كلِّ كتابة، فتتحوَّلُ اللُّغةُ من أداة لتوفير الأجوبة المُقنعة والممتعة إلى أسئلة غيرِ منتجة أو غير قابلة للأجوبة، وفي هذه الوضعيَّة تُيَسِّرُ للشاعر أن يعبث بالعلاقات اللُّغَوِيَّة".( )
وعليه، فتسعى هذه الدراسة إلى البحث عن تشكُّلات اللُّغة عند الشاعرة إيمان عبد الهادي في ديوانها "فَلْيَكُنْ" ضمن ملمح أسلوبي واحد تَأتَّى في سياق قراءة ديوانها، وظهر لديها كملمحٍ لغويٍ، وقد أصطلحنا على تسميته بـِ "الصَّيرورة والتَّحوُّل"؛ فقراءة قصائدها على نحوٍ عميق تكشفُ مدى تمحور هذا الملمح في قصائدها الطويلة في ديوانها "فَلْيَكُنْ"؛ فقد بدا جليًّا أنَّ الشاعرة جاءت على عدد من الانفعالات الداعية للوصول إلى مبتغاها منَ الحُبِّ أو الخلاص أو الديمومة أو اللقاء أو...، مستخدِمةً لذلك جملةً منَ الألفاظ والأساليب اللُّغَوِيَّة دلَّت على الصَّيرورة والتَّحوُّل من حال إلى حال.
د. راشد عيسى: الموقف من الشعر النسوي.
السؤال التاريخي الكبير: لماذا نرى الشعري النسوي في العالم كلّه أدنى مستوى من شعر الرجل كمًّا وكيفًا؟
عدد الشاعرات في كل بيئة ثقافية في العالم (5%) من عدد الشعراء.
انخيدوانا أول شاعرة في التاريخ 2000 سنة قبل الميلاد. ثم سافو اليونانية 600 سنة قبل الميلاد. انخيدوانا عراقية أكدّية ابنة سرجون في شعرها مزايا جمالية خالدة..
معظم الشاعرات اللواتي حققن شهرة في اعالم هن بنات أسر متنفذّة أو غنيّة... الخنساء.. ولادة.. عائشة التيمورية.. فدوى طوقان.. نازك الملائكة.. الأمريكية جابريلا ميسترال، إيميلي ديكنسون.
لاقت الشاعرات عبر التاريخ اضطهادًا عظيمًا في اليابان والصين وكُنّ يُرجمن بالحجارة ويقتلن بطرق مختلفة. مئات الشاعرات وُئَدِنَ في المهد.
ليس صحيحًا ادّعاء الشاعرات أنهن مستلبات الحرية.. فالخنساء صالت وجالت وكان شعرها صدى.. وفدوى طوقان طوّفت وانفتحت على الدنيا.. ونازك درست الماجستير في أمريكا.. وولادة نالت من الحرية والنفوذ ما لم تنله شاعرة. لو كان الأمر متعلقًا بالحرية إذن كيف نفسر التماع عدد كبير من النساء في العالم في مجال الرواية والسرد عمومًا والغناء والتمثيل.. هل نصدق العقاد عندما قال: قد تبدع المرأة في الغناء والتمثيل والرقص لكنها بعيدة عن الشعر والفلسفة. ومن قبله في العصر العباسي قال بشار بن برد: ما قالت امرأة شعرا إلا وظهر الضعف فيه .هل يوجد شاعرة عربية بمنزلة فيروز وأم كلثوم..؟
موقف الرجل من شعر المرأة مؤلم.. متناقض منذ النابغة، عندما قال للخنساء لولا أبو بصير لقلت إنك أشعر الإنس والجنّ.. إلى ما وجدته عند بعض النقاد حين يرفعون شاعرة متواضعة إلى القمة المزيفة :خنساء العصر، أو كما دلّل الغذامي نازك الملائكة: ماما نازك. الرجل أسهم في الإساءة إلى شعرية المرأة.
ينبغي الانتباه إلى ما هو جيد في شعر شاعرة ما فقد ثبت أن شعراء كبارًا خلف قصائدهن.
شعر النساء قليل إجمالًا لأن الشاعرات قليلات. وقصائدهن قصار. شعر الجاهليات كله مقطعات عدا الخنساء. وكذلك شعر الأندلسيات.
في شعر المرأة عمومًا مباشرة وعاطفية مفرطة وتقليد واضح لكبار الشعراء.
الشعر فتنة للنساء أكثر منه للرجال.. لذلك يغلب الآن على الساحة ما أسميه النصوص الخواطرية.. مئات الصبايا يقدمن أنفسهم على أنهن شاعرات ولا تمتلك إحداهن أي دراية بموسيقى الشعر أو لغته الشجاعة.. لكن مواقع الاتصال الاجتماعي تسمح لهن بهذه الفوضى أو يؤازرهن نقاد أدعياء جهلاء بفن الشعر لكنهم خبراء بفن المجاملة المغرضة. 
الشاعرات المتميزات نادرات على مرّ التاريخ وباختلاف البيئات الثقافية نسبة الجيد من شعر الشاعرة الواحدة أيضًا قليل.
شعر الحب عند المرأة نادر، لأنها لا تستطيع أن تبوح بمكنونها العاطفي كما تشاء، لأن الأعراف والسلطة الذكورية بالمرصاد. في العصر الأموي برزت ليلى الأخيلية في شعرها شجاعة عبرت عن موقفها العاطفي من حبيبها توبة بن حميّر أمام الحجاج وعبد الملك بن مروان.
تركز المرأة في شعرها على الفكرة وهي فكرة ذاتية على الأغلب، فقلما تشتبك الشاعرة بالقضايا الكبيرة وإذا اشتبكت كانت رؤاها بسيطة. لا تضر ولا تنفع.. فدوى طوقان [سيدة القصيدة الفلسطينية] لم تترك لنا مقطعًا شعريًا واحدًا يردده الجمهور العربي.
قلما نجد خصبًا فنيًا في قصيدة المرأة من مثل استدعاء التراث وتوظيف الأساطير أو العلو بالترميز إلى آفاق متميزة. لذلك يوصف الكثير من شعر المرأة بالترهل الفني.
د.مها العتوم: استعادة الشعر في ديوان: "ما لا يستعاد"
    لعل أهم ما يلفت القارئ في قصيدة مريم شريف هو هذه هذه التدفقات الشعرية المنسابة مثل نهر، بجمل شعرية تبدو كأنها مجرد كلام عادي من شدة بساطتها، ولكنها تمتلك شعرية عالية بسبب كل ما فيها من بساطة، ولكنها بساطة خادعة تسحب القارئ إلى حوار عميق مع الإنسان والطبيعة والحياة والموت والمجاز، وهو حوار عميق وحزين في الوقت نفسه إلا أنه مضيء مثل ضوء آخر النفق، لذلك يتبعها القارئ من أول النفق إلى آخره حابساً أنفاسه ومسحوراً يفتش عن علة ذلك الضوء:
قريباً من الضجيج والناس
والركام،
بأصابع أتعبها كثيراً أن تمسح الدموع
التي لم تسقط إلى الخارج
أكتب على البياض المتلاشي
والورقة الممزقة
ما يُضاف إلى الركام
فكتابة مريم شريف قريبة من الضجيج: الحياة، والناس: الإنسان، والركام: الواقع بكل ما فيه خراب نعيشه، إنها تكتب الألم الذي لا يمكن قوله ولا البكاء بسببه، ولكنه يحز في النفس، ويُسبب البكاء الداخلي الذي لا تكفكفه إلا الكتابة، ولكنها كتابة على البياض المتلاشي وعلى الورقة الممزقة وكأنه سؤال الزمن والجدوى، وكل ما تكتبه إنما يضاف إلى الركام الذي تجاوره وتكتب عنه، وفي الحقيقة هي تُجمّله وتجعله قابلاً للاحتمال بالفن والجمال.
وفي قصيدة مريم شريف تختفي البلاغة القديمة بحدودها المتعارف عليها، وتقيم قصيدتها بلاغتها الخاصة على علاقات جديدة بين مفردات الكون والإنسان والطبيعة، فتشكل معجماً متفرداً  للمفردات والتراكيب والجمل الشعرية، وتصنع صورها الفنية بأسلوبها الخاص المميز، فلا تنبني القصيدة عندها على تراكم الصور، ولكنها تشكل صورها بالكلام السهل البسيط الذي تظنه -في لحظة ما- كلاماً عادياً ويومياً وتلقائياً كأن لا شعر فيه، وهذا هو السر في شعرها وفي شعرية قصيدتها: 
على التلة البعيدة
ضوء بعيد
من كثرة ما نظرتُ
صارت التلة تضيء
من كثرة ما أضاءتْ
غرقت الشوارع في الظلام
ولعل هذا المقطع الصغير على بساطته يختزل تجربة الشاعرة التي تشغل عزلتها بالتأمل، وهي عزلة لا بد أنها تتسم بالعتمة وظلمة الجدران والبعد عن الناس، ولكنها كافية للشعر حين تكثر النظر وتطيله وتصنع من الضوء البعيد الضئيل نوراً متوهجاً، وهذا الضوء يعشي ما حولها ويغرقه في الظلام. فالشعرية هنا مصوغة من مفردات بسيطة: الضوء، والنظر، والتلة، والشارع، والظلام. فهي في الظلام ترى نوراً خافتاً بعيداً، ومن إطالة التأمل تصنع النور الطاغي الذي يجعل الشوارع تغرق في الظلام. لا بد أنها تنسل الضوء من العتمة، وبالضوء تعيد العتمة إلى مكانها. وكأنها عبارة النفري الذي رأى أنها كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة. وكأن الوهج والشعر والكشف في الضوء الضئيل والبعيد، فإذا اشتد الضوء أعشى البصرَ وعمّ من بعده الظلام، لينتهي الكشف والتجلي، ويعود المريد كما تعود الشاعرة إلى لحظة البحث عن الضوء الخافت من جديد. وفي موضع آخر تقول:
في كلماته القليلة
أبحث عن قطرة ماء
علقت بسقف إحدى الكلمات
أبحث في قطرة الماء عن نهر
أبحث في النهر
عن كأسي التي أضعتها منذ سنين
ألملم الرؤى التي أحاطت السراب منذ الأزل
أشهدها تلوي عنق السنين
وتُعبّئ النهر في كأسي
أشاهد الكون يتبادل الدور
مع الكأس التي شربتها للتو
هذه الكلمات القليلة تتوازى مع الضوء الخافت الضئيل في المقطع السابق الذي يتراءى من التلة البعيدة، وفي الكلمات القليلة تفتش عن قطرة ماء، وفي قطرة الماء تفتش عن النهر، وفي النهر تفتش عن كأسها، عن الضوء الذي يخصها الذي صنعت منه ضوءاً باهرا في المقطع السابق. وهي توازي هنا عملية البحث عن الشعر، أو هي رحلة الشعر في ملء كأس الشاعرة من كلمات قليلة كقطرة ماء تصير نهراً، وقد تلتبس فتصير سراباً، لكنها تنتهي بالامتلاء، وبالشعر حتى ترى الكون في اللغة: يتبادل الدور مع الكأس التي شربتها الشاعرة للتو، وما كأس الشاعرة إلا قصيدتها التي تصير كوناً يخصها يمتلئ ويفيض. 
ففعل الرؤية الخاص بالشاعرة هو مفتاح هذين المقاطع، وهو في الواقع مفتاح تجربتها، فقصيدتها هي خلاصة تجربتها، وهي الضوء والماء الذي تصنع منهما وبهما الشعر. ومن هنا يمكن فهم إعادة ترتيب الوجود، وتعريف عناصره في قصيدتها وفقاً لرؤاها التي تنهل من نهر تجربتها وضوئها. فالشعر في أبسط تعريفاته إعادة لتعريف مفردات الوجود، إذ إن الوجود معروف للجميع، واللغة معروفة للجميع، لكن الفريد ما تصنعه الرؤيا الخاصة بالشاعرة في صياغة الوجود من جديد في كل قصيدة، تقول في تعريف المسافات:
المسافات ليست على الأرض
المسافات ما ننسى أن نقوله
ثم يسقط في النسيان
وفي تعريف وجهها تقول:
وجهي الذي ألملم ملامحه من عيون الآخرين
وأنسى خطايَ في ساحته البهيجة لبعض الوقت
ليس هو ذاته
الوجه الذي أراه أمامي في المرآة
ألم أقل بعد
إن الزمن يتكدس في الجمادات
على هيئة اهتراء
وعن اللحظة التي لم تصل، تقول:
اللحظة التي لم تصل
هوتْ من السماء نحو كفِّي
ملأ ضؤوها عيني لحظة
وانسكب منها كالبكاء
تلك اللحظة كانت ستسقط فوق نهاري
لو لم يكن نسيجه ركيكاً
مثل نسيج يدي
وتسترسل في وصف اللحظات في قصيدة ترصد الحياة كأنها لحظات معلقة في سقف الوجود، ومن جدل العلاقات في كل لحظة تصنع حياتها وقصيدتها. فتقول عن لحظة أخرى:
اللحظة التي تطرد الماء من صوتي
والمكان من سمائه
هي اللحظة التي أحتاج أن أغسلها عن أصابعي
كي أُعتق النافذة من إطارها وزجاجها
وأطلقها بين أنفاس الريح
كي توازن بين فضائها المبتور
وزرقة السماء
وعن لحظة ثالثة تقول:
اللحظة التي يحبسها الغبار فوق زجاج النافذة
هي ذاتها اللحظة التي أحتاج محوها عن حوافّ نومي
لأغربل لحظة اليقظة من غيوم السقف
لأوقف الخواء الزاحف بين حواسي الخمس
وبين مفاتيح الباب
لتعيدني روحي إذا ابتعدت
وتتراكم اللحظات مثل الضوء المتراكم ومثل الماء المتراكم، لتصنع من الضوء نهارا، ومن قطرة الماء نهارا، ومن تراكم اللحظات حياة جديدة في اللغة تواجه خواء اللحظات في الحياة وقسوتها وعنفها ضد الإنسان وضد الشاعرة في الحياة وفي القصيدة.
 ويمكن تتبع تعريف الكون والإنسان والطبيعة بكل عناصرها: الظل والحب والحزن والنظرة والطريق...بما يُشكل الوجود من جديد في حياة الشاعرة وتجربتها وعلاقتها الخاصة باللغة وبالقصيدة. فأنت تلمس وتسمع وتذوق وتحس وترى الكون بحواس جديدة تعيد ترتيبها الشاعرة وتركيبها في قصيدتها. فالحواس حاضرة بكامل وعيها ووظائفها ولكنها تعمل في مناطق جديدة تفتتحها الشاعرة في قصيدتها، بهذا الذي يشبه تراسل الحواس وتبديل أدوارها في الكون تصنع القصيدة شعريتها وجمالياتها. فالقارئ لا يرى الأشياء بل ظلالها وصورها على زجاج لا يرى ما وراءه إلا الشاعرة، ونحن لا نرى إلا ما تعكسه الكلمات من رؤى وظلال ما تراه ولا نراه. ولكننا نحسه ونكاد نلمسه بكلماتها، ويفتح أفق التوقع إلى آخره وإلى آخر ما يصل إليه خيال القارئ وإحساسه بكل ما حوله.
وختاماً، فإن مريم شريف تكتب قصيدة نثر تحمل ملامح واضحة، وحدوداً ومعايير ترتبط بشروط قصيدة النثر العامة من جهة، ولكنها تمتلك أسلوبية خاصة بها من جهة أخرى، كما أنها قصيدة لا تنجرف إلى النثر اليومي على الرغم من بساطتها الظاهرة، إلا أنها في الوقت نفسه لا تقع في شباك أدوات وإجراءات أشكال الشعر الأخرى: قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية. وقصيدة مريم شريف لا تتعمد أن تبدو بسيطة وسهلة وقريبة من القارئ وجميلة، ولكنها تتعمد أن تواجه تعقيد العالم وصعوبته وبعده عن الفهم وقبحه. إنها الخفة التي لا تحتمل في لغة الشعر التي تعبر عن ثقل الوجود الذي لا يحتمل.  
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون