الهويّة الأردنية في رواية "فاطمة" للروائي "محمد الزيود".
2022 ,19 آذار
رواية ( فاطمة .. حكاية البارود والسنابل)
*د. عماد الضمور:صوت العرب – الاردن.
يكشف عنوان رواية الروائي الأردني محمد الزيود ( فاطمة .. حكاية البارود والسنابل) والصادرة حديثًا عن هوية أردنيّة باتت مهمةً في الرواية الأردنية المعاصرة، حيث الحديث عن الأردن: الإنسان، والمكان، والإنجاز، إذ لا بدّ من انعكاس البيئة في الإبداع، ولا بدّ من تجسيد المعاناة الجمعيّة في المتخيّل السرديّ، ذلك أن الرواية فن إبداعيّ قادر على الانبعاث في فضاءات تصويريّة خِصبة، تقارب المكان إبداعيًّا محاولةً تفسير الأحداث تفسيرًا يقترب من الكتابة الواقعية التسجيليّة، ويستعين بإمكانيات الرواية الفنية.                                                                                 
       بدأت الرواية بمفتتح مشهدي، يُقارب المكان مقاربة فنية؛ ليمنح المتلقي مفتاحًا سيميائيًّا خاصًا، حيث يُطلّ علينا الكاتب من شرفة حي الغويرية في مدينته الزرقاء، متجاوزًا طبيعته الجغرافية، وحيزه المكاني إلى تكوين حالة فكرية متكوّنة من" مجتمع فسيفسائي، لكنه متجانس، سكنه العسكر من بدو" بني حسن" . أراضيهم هنا، ومراح أغنامهم ومراعيها. ومرابط خيلهم ما بين " البتراوي" و" بّرخ". حدودهم من الشرق سكة الحديد الحجازية ومعسكرات الجيش. وسكنه أيضًا ناس من البدو أهل الجبل والسرديّة والسرحان، وآخرون ممّن عملوا في معسكرات الجيش في الزرقاء القرية، وانضمَّ إليهم لاجئون بعد نكبة عام 1948م. وكثير من النازحين من قرى الضفة العربية بعد حرب الأيام الستة عام 1967م"(1).                                            
عنوان الرواية ( فاطمة) وهو اسم علم مفرد، اختاره الزيود ليكون بمثابة مركز الدائرة الذي تنطلق منه عدة إشعاعات تغلف المُناخ العام للرواية، والذي ظهر من خلال تفسيره بجملة ( حكاية البارود والسنابل) ممّا شكّل تحوّلاً مهمًا في العنوان، جعل القارئ قادرًا على الإمساك بخيط يشده لفاطمة الوطن الأبهى، والأجمل.                 
ومن الناحية البلاغيّة جاء العنوان مقتضبًّا دالًا موجزًا لأقصى اقتصاد لغوي ممكن؛ ليتعانق بذلك مع الغاية التي يتوخاها العنوان في عمق الدلالة وبلاغة الأثر الفني، وتحقيق التماسك النصيّ من خلال سارد واحد للأحداث، وفكرة شموليّة تسيطر على الرواية.                                                                                        
يستفيد الزيود من ذكريات طفولته مستعينًا بالمكان الذي شكّل بؤرة سرديّة، وروحًا يبعثها في شخوصه،حيث التفاعل مع الشخوص والأحداث، مُبرزًا المنظومة الاجتماعيّة والأخلاقيّة للمجتمع الأردني بهويتها الوطنية ومقوماتها الفكريّة الخصبة، فكانت الولادة الباعثة للآمال" هنا ولدت، بين شجر البلوط على طرف المرج، حيث امتدَّ اللوز البري والزعرور حتى بنيا سورًا يكاد يحجب أشعة الشمس الخجلى في الشتاء. إنّه أول المطر إذ تنادى الغيم على ظهر " السناد" وكاد يلمس رؤوس الناس. على طرف الفرع الغربي، ولدتُ أنا فاطمة في بيت أبي يعقوب. خربوش من الشعر، شُدَّت حباله وانغرزت أوتاده في قلب الصفاة"(2).                                                        
إنّ انشغال المتن الروائي في رواية ( فاطمة) بترسيخ الهويّة الأردنية في النفوس أمرّ واضح لا يمكن إنكاره، فالكاتب معنيّ في سرده وحوارته ووصفه المشهدي بخلق حالة من الانسجام بين الحدث التاريخي، والسرد الروائي التخييلي أحيانًا الذي منح روايته تماسكًا سرديًّا، ونغمة خاصة تُعلي من الوطن، وتبعثه من جديد في قالب روائي مدهش.                                                                                        
يُجسّد الكاتب في روايته جانبًا مهمًا من العادات والتقاليد، حيث يبث في ثنايا السرد الهوية الأردنية، وتجلياتها في حركة الشخوص، وحواراتهم العفويّة، فنجده يقول مستحضرًا أمه الحاضرة الغائبة:" كنت أحلم بأمي، هي تُشبهني، رأيتها نعم، عيناها واسعتان مكحلتان، تلبس عصبة سوداء  على منديل يلمُّ شعرها، قُمحيّة البشرة، مدقوقة على الخدين، وشفتاها جميلتان عندما تضحك لي، هي مثلما وصفتها لي عمتي صبحا"(3).                                                                                    
لم تغب هذه الملامح الأردنية الأصيلة في شخصيات الرواية: حمدان، سارة، الراعي سلمان، العمة صبحا، الخال حسين، ...إلخ. وهي كلها تدور في فلك فاطمة الأيقونة الأهم في الرواية، وهي شخصيات تتحرك في أمكنة متعددة تغصّ بالمكان الأردني: شفا بدران، وبيرين، وطواحين عدوان، والسّحارة، وصروت، والحوايا، ... إلخ.            
إنّ هذا التشكّل للهوية الأردنية في الرواية يمنحها طابع الثبات، والاستمرارية في الأجيال؛ بعدما أضحت هذه الهويّة فكرًا ممتدًّا يكتنز بتجارب الشخوص ، ويتغنى بمعاناتها وآمالها الكثيرة، فضلًا عن قدرتها على مقاومة فعل التغيير الذي تُمارسه التكنولوجيا المعاصرة، والتمازج الواضح مع ثقافات جديدة.                              
نسير مع محمد الزيود في دروب الطيبين؛ فنعانق قلوب الأردنيين المنتشيّة بالحبّ، والمفعمة بالتضحية والفداء، كما في وصفه لعرس حمدان:" كلّ ما أذكره أن عرس حمدان سيملأ ديرتنا فرحًا، الرجال في ساحة أمام البيوت يُغنّون، اصطفوا للدحيّة بجانب بعضهم بعضًا، يُصفقون بأياديهم بطريقة منتظمة، ثم يميلون بجذوعهم للأمام. كان حمدان يقود الدحيّة، يقف أمام نصف الدائرة التي شكّلها الرجال برقصتهم، ويهرول من بداية الصف من اليمين إلى اليسار ثم يعود بالعكس"(4).                    
ترفع الرواية صوتها عاليًّا باعثة المتخيّل الشعبيّ من جديد؛ لتُشكّل وتُمارس غرسها في الأجيال اللاحقة بعيدًا عن كلّ المؤثرات السلبيّة.                                            
   ولا يخفى في الرواية دور الشخصية الروائيّة في إبراز الهوية الوطنيّة، وارتباطها بالمكان الأردني بوصفه وعاءً حاضنًا للفكر، وحصنًا منيعًا ترتد إليه الشخصية الروائية   وتنمو من خلاله ؛ ليتناسل فرحًا وحبًّا في الأخرين، كما في حديث الراوي( فاطمة) عن طقوس العرس الأردني الذي يتجاوز مظهره المادي إلى الكشف عن صفات الأردني النبيلة والراسخة في الذاكرة الشعبيّة:" ساعدتُ عمتي صبحا بخلط حلوى العرس؛ ليوزع على الضيوف الذين سيأتون بيتنا في المساء. جهزنا الراحة والحلقوم، وحمَّستُ ليلتها كلّ القهوة التي أحضرها حمدان من عمّان، دقتها في المهباش حتى فاحت رائحتها في سماء الديرة"( 5). إنّ أسماء شخوص الرواية لم ترد عفويًّا أو اعتباطيًّا في الرواية، بل أنها موغلة في الوجدان الشعبي الأردني، جاءت لتدل على علاقة الرواية الوثيقة ببيئتها الأردنية، إذ إنّ الاسم الدال على شخص ما من أهم الوسائل التي يتوسل بها الكاتب إلى القارئ؛ لإيهامه بمدى مطابقة النموذج الشخصيّ في الرواية للواقع؛ لذلك انبعثت الأغاني الشعبية الأردنية منصهرة في طبائع الشخوص ووجدانها الخصب :" يا بيي حمدان وسّع الميدان.. والعز لك والفرحة للصبيان"( 6).       
يتحدث (باشلار) عن البيت الأليف الذي يسمح لساكنيه بالانتشاء، ويمنحهم الدفء والطمأنينة، وهو بيت ألهب مشاعر الروائيين، ومن بعدهم الباحثين الذين جعلوا من البيت مبعث الأحلام، وموطن الذكريات التي لا تنتهي، لذلك نجد الزيود يذهب بنا بعيدًا إلى البيت الأردني المجبول بالحبّ والشامخ بتعاون ساكنيه، بيت طيني سقفه من القصب، متماسك بترابط أهله، وكأنه يُشير إلى أبعاد هذا البيت النفسيّة، وما يعكسه من ألفة وحماية لساكنيه، فهو راسخ الجذور، مُشرعة أبوابه للضيوف، والملهوفين.              
يُوغل الزيود في الحديث عن طقوس الريف الأردني، وحكايا ساكنيه، وكأنّه منجم من كنوز دفينة تبقى موقدًا لوهج لا ينطفئ :" البيادر تُصافح وجه الشمس الخجلى .. الندى يختبئ في سنابل القمح المسكونة بالخوف من ذاك الصوت. يتعالى صوت " الدرّاسة" ويغطي جريشها على أصوات الجميع"(7).                                                  
بقيت القرية، وأحاديث الفلاحين موضوع السرد في الرواية، وبخاصة عند الاستماع للأخبار العالمية، التي تبثها الراديو، فكان نبأ استشهاد الملك عبدالله الأول ابن الحسين صاعقًا على الجميع؛ لتنبعث طقوس الحداد في الرواية:" تمسمّر الرجال في أماكنهم، حتى المختار عودة أرجع كاس الشاي من فمه. ولأول مرة، أرى دموع خالي حسين تنهمر بلا صوت. نادى علي وطلب منه أن يُطفئ النار، وقام وسكب دلال القهوة وقلبها حزنًا على سيد البلاد"( 8).                                                                   
تتعدد شخوص الرواية التي يستقيها الزيود من البيئة الأردنية، ومن تضحيات الأردنيين وإرثهم البطوليّ، فشخصية صالح المرزوق الذي لا يهاب المنايا صاحب الإرادة القوية ظهرت منقذة لأهل قريته من شرّ الحيوانات المفترسة، فكانت مغامراته مع الضبع المفترس موضع حديث الناس، وذات مشهد مألوف في القصص الشعبي الأردني.      
يستمر الزيود في روايته ( فاطمة) بسرد قصص الحبّ والفداء التي جُبل عليها الأردنيون وصولًا إلى دروب العسكرية عنوان التضحية والبطولة عندما جاء مختار القرية ليُعلن خبر فتح باب التجنيد للعسكرية حيث يتهيأ (علي) ذلك الشاب الذي تجاوز الخامسة عشرة للالتحاق برفقة شباب القرى المجاورة للتسجيل في الجيش العربي، فيجعل الكاتب من هذا الحدث المقدس فرصة للحديث عن الطقوس الشعبيّة وأفراح الأردنيين عند التحاق شبابهم بالجيش العربي، إنّه شرف ما بعده شرف وبطولة لا تطاولها بطولة، حيث جاء ردّ الخال حسين على العمة صبحا مختصرًا لكلّ هذه المشاعر:" يا صبحا لا تبكي بوجه الولد.. علي ودّه يصير عسكري"( 9).                 
في مخفر جرش تجمع الشباب للانضمام بالعسكريّة، خرج علي باللباس العسكريّ مُكللًا بالعز والفخار:" ثم أصلح شماغه الأحمر، وأمال العقال، وتأكد من شعار الجيش العربي في مقدمة رأسه وقال:" جاهز"( 10).                                               
بدأت رحلة علي في العسكريّة متنقلًا من جرش إلى العبدلي بواسطة سيارات عسكرية تمهيدًا لترحيلهم إلى معسكرات " خو" للتدريب.                                            
غاب علي ستة أشهر مخلفًا وراءه حنين الأهل ودعوات الأمهات له بالعودة، حتى عاد إلى قريته بكلّ زهو بالعسكريّة" يرتدي اللباس الخاكي، كتّافيّات الجيش العربي المعدنية مثبتة على كتفيه، وتحزّم بالقايش، بينما انتعل بسطارًا طويلًا، وربط الطماقات على رجليه"( 11).                                                                                 
  تحتفي رواية ( فاطمة) بطقوس استقبال الأردنيين لأبنائهم من العسكر، وبخاصة أفراحهم بإجازاتهم العسكريّة، حيث تستمر( فاطمة) بسرد هذه الطقوس واصفة أجواء زفافها على صالح المرزوق:" جهّزت عمتي صبحا لي لحافين وفرشتين من الصوف، واشترت لي من عند أبو صياح صندوق عروس، وأحضر لي صالح إسوارتي " مباريم" جزءا من السياق. وعندما مرّ الدوّاج " ناصح الحسن" كما كانت تطلق عليه عمتي صبحا؛ لأن صوته غليظ يلجلج في سماء القرية، ابتاعت منه " شماشير" ومناديل"( 12).                                                                                 
تتزوج فاطمة من صالح المرزوق، وهو من جنود الجيش العربي، وهنا تستحضر في حديثها عن زوجها بطولات الجيش الأردني، وتضحياته في القدس دفاعًا عن ثراها الطاهر:" حدثني عن العسكر والجيش، وأنّه كان جنديًّا في كتيبة حابس المجالي، وهاجم اليهود في اللطرون، ووصف لي البساتين،وطيبة الناس في فلسطين عند أهلنا غرب النهر، حتى إنّه كشف لي ساقه، وقد كان فيها أثر من جرح غائر قديم. قال لي يا فاطمة هذا جرح من شظيّة. عندما لاح لي صفٌّ من عصابات اليهود، نادى عليَّ حابس: أبوي يا صالح .. عليك بيهم"(13).                                                                                                     
  إنّ فلسطين بإرثها الحضاري، وجرحها النازف حاضرة في الرواية الأردنيّة، ذلك أن تضحيات الأردنيين في الدفاع عن ثراها الطهور لا تُنسى، وبطولات الأردنيين على أرضها بقيت حكايات خالدة تتناقلها الأجيال.                                                
   تظهر شخصية صالح المرزوق في الرواية بخلفيّة شعبيّة؛ لأنها تنتمي بكلّ مكوناتها الفكرية والسلوكيّة إلى البيئة الأردنية، تتحرك ضمن الأطر الشعبيّة، ذلك أن البناء الفكري لشخصيّات الرواية يتضمن المعتقدات والقيم الشعبيّة التي تظهر في حوارات الشخوص، وحركتها المستمرة.                                                             
تقدم ( فاطمة) في الرواية صورة للبطل الإيجابي الذي يعكس بعدًا جماعيًّا ، فهي تسرد حكاية وطن، وبطولات شعب، وذكريات أمة خالدة، أصبحت جزءًا من الذاكرة الشعبيّة التي لا تفنى، بل تتجدد في قلوب الأردنيين باعثة مُعجمًا خصبًا من المفردات الراسخة في الموروث الشعبي الأردني.                                                               
تسرد فاطمة نقلًا عن العمة ( صبحا) تكاتف جهود الأردنيين : مسلمين ومسيحيين أيام الجدب، والحاجة؛ فهم متعاونون متحابون، يمنحون الوطن الحبَّ كلّه:" أخبرتني أن هناك جماعة من المسيحيين نزلوا في القرية المجاورة لنا، يُقال لكبيرهم ميخائيل، وجاؤوا من السلط، لديهم الكثير من الغنم والماعز، وهم يمنحون المحتاجين لقاء منفعة يتقاسمونها معًا"( 14).                                                                         
يستمر الجندي ( علي) في كتيبته الرابضة في وادي الأردن، وهي تتحضّر للدخول إلى الضفة الغربية، حيث تعود الذاكرة بعلي إلى ما كان يسمعه " في تعليلة أبيه حكايات الذاهبين للقدس للصلاة هناك"(15). وهو في هذه اللحظات يتهيأ لقتال اليهود بعد أيام قليلة من معركة السموع. حيث دخلت كتيبة القدس للدفاع عنها.                           
    جاءت رواية ( فاطمة) سجلًا حافلًا ببطولات الجيش الأردني في القدس، وتصوير دفاعه المستميت عنها. حيث كان مشهد الاستشهاد المهيب لعلي ورفاقه:" أسلموا الروح ، ولم تغادر أصابعهم الزناد، ارتخى علي وارتقى شهيدًا روحه تعانق صوت آذان الفجر فوق مآذن القدس، مال برأسه ولم يسقط شماغه عن رأسه، بقي معطرًا بالبارود وتراب الشيخ جرار. حملت روحه غيمة من فوق القدس، وسبحت نحو شرقي النهر تطوف القرى والبوادي"(16). وهذا شأن الجيش العربي في دفاعه عن فلسطين، فكان حديث المُعزيّن لأبي علي:" قال له الحاج أبو إبراهيم: " القدس تستاهل يا أبو علي.. القدس تستاهل يا أبو الشهيد"(17). ليبقى (علي) نائمًا عند أهله في فلسطين، وحناجر الأردنيين تتدفق حرارة وإصرارًا على التضحية في سبيل الأمة.                         
       تبقى ( فاطمة) الشخصية المركزيّة في الرواية ساردة للأحداث، والقصص الموغلة في أعماق الشخصية الشعبيّة الأردنية، وهي الوطن في تجلياته، والبطولة في عنفوانها، وحكاية البارود والسنابل التي يتوارثها الأردنيون جيلًا بعد جيل.                         
*اكاديمي وناقد اردني.
الهوامش: 
1 ـ محمد الزيود، فاطمة حكاية البارود والسنابل، 2021م، ص10.
2 ـ الرواية ص 13،18،57،62،63،88،95،133،147،155،157، 159-160،170،177، 196- 197،205.
 
من حفل اشهار الرواية
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون