اصدلات : كتاب الفرجوي والسياسي في تونس للدكتور محمد كشو.
2024 ,29 آذار
صوت العرب:تونس.
يتنزل بحثنا "الفرجوي والسياسي في تونس" في مدار النقد الثقافي الذي رافق ما بعد الحداثة  في مجال الأدب والنقد، إهتم المنهج الثقافي بإستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة ، ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي فهما وتفسيرا.
لقد استند النقد الثقافي إلى التعامل مع النصوص والخطابات الا انه لم يعر الوجهة الجمالية الاولوية في دراسته بل تعامل معها من خلال رؤية ثقافية تستكشف ما هو سياقي وما هو تاريخي اجتماعي واقتصادي سياسي. كما يعتمد النقد الثقافي على التأويل التفكيكي واستقراء التاريخ والاستفادة من المناهج الأدبية المعروفة والاستعانة بالتحليل المؤسساتي...  
وهكذا، فالنقد الثقافي هو مجموعة من المناهج والمقاربات المتعددة الاختصاصات التي تسعى لكشف الأنساق المضمرة والأنظمة الإيديولوجية في الحقل الثقافي.
وعليه، فموضوع بحثنا متعدد ومتنوع فتتبع ودراسة الفرجوي والسياسي يحيلنا الى مدونة متنوعة من النصوص والخطابات والوثائق والسير وكتب التاريخ والشهادات ومن خلال الثقافة الشعبية والانتقال مما هو جمالي إلى ما هو ثقافي وتاريخي وسياسي وإيديولوجي ومؤسساتي.
ونقصد بالثقافة الشعبية، كل الأشكال التعبيرية الفرجوية والمنطوقة والتي تختزنها الذاكرة الشعبية. وتشمل هذه الثقافة الشعبية: الموروث السردي (الحكايات، والخرافات...)، والأمثال الشعبية وغيرها من الفنون التعبير الأخرى كالفداوي وعروض الكاراكوز والعروض الصوفية والفروسية وغيرها... وتجدر الإشارة إلى أن الثقافة العربية الحديثة اقصت نوعا ما هذه الثقافة إلا أن هناك اليوم وعي متزايد بأهميتها، لاعتبارات أساسية:
أولا لإغناء هويتنا من خلال الانفتاح على الآخر والمختلف والهامشي داخل ثقافتنا. وإعادة الاعتبار للثقافة الشعبية المحلية، بوصفها جزء لا يتجزأ من الثقافة التونسية، ورافد أساسي من روافد الهوية. 
وثانيا، لفهم ذواتنا وعلاقاتنا داخل إطار المجتمع، على اعتبار أن المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليست وحدها المتحكمة في واقعنا، وإنما هناك المتغير الثقافي، وخاصة ما يرتبط بالثقافة العفوية أو الشعبية. اذ "يمتلك التقليد الشفوي عموما سلطة سياسية خارقة، ودوره استراتيجي لفهم دينامية العالم العربي المعاصر" .
والاهتمام أيضا بتغيير العقليات/الذهنيات، أي من خلال الاهتمام بالثقافة، لاسيما الثقافة التقليدية والشعبية، التي تؤطر تصورات وسلوكات الإنسان. 
يتعامل بحثنا مع الاعمال الفرجوية والمسرحية باعتبارهما ظواهر ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، هو سعي لربط الحقل الفرجوي المسرحي بسياقه الثقافي غير المعلن. فلن نتعامل مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية ومجازات شكلية، بل على أساس أنها أنساق ثقافية مضمرة تعكس مجموعة من السياقات الثقافية التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقيم الحضارية والإنسانية. فتعاملنا مع الحقل الفرجوي الجمالي ليس باعتباره منجزا مكتملا مستقلا عن محيطه، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية ثقافية تضمر أكثر مما تعلن.
تبدو أهمية المنهج المتعدد الاختصاصات في التعامل مع النص أو الخطاب الأدبي او المنجز الفني والفرجوي –اساسا- انطلاقا من كونه ظاهرة ثقافية،  حيث نعتمد هذه المقاربة في ضوء رؤية ثقافية شاملة اجتماعية وسياسية واقتصادية وتاريخية مع التركيز منهجيا على رصد الأنساق الثقافية المضمرة، وموقعتها في سياقها المرجعي والثقافي والإيديولوجي والمؤسساتي وهو ما سنسعى لاستقصائه في مسار بحثنا بربط العلاقات بين ما هو سياسي وما هو فرجوي في تونس الى حدود التدخل الاستعماري الفرنسي قصد استنتاج مجمل الرؤى الفرجوية والمسرحية وتأثرها وتأثيرها في الخيارات الجمالية من جهة والاجتماعية من جهة اخرى فيسمح لنا هذا المبحث في الدراسات الثقافية برصد رؤى المجتمع التونسي الفنية والسياسية ويفتح لنا النقد الثقافي باب التأويل واستنتاج المقاصد لتجميع هذه الرؤى التونسية في فترات ميزت تاريخ تشكله ومسار تكونه.
ان طرقنا لشبكة العلاقات الجامعة بين ما هو سياسي وما هو فرجوي ومسرحي جعلنا نتحسس قراءات تعددت ووجهات نظر حول المسرح التونسي، ورغم واقعيتها تلمسنا حدودها، فكثر الحديث والمقاربات والدراسات حول اللبنات الأولى والمحاولات التأسيسية الأولى لفن مسرحي في تونس فجاءت المقاربات بين منتصر للشرق والمقاربات التأسيسية ذات الروافد العربية لبنانية ومصرية وبين منتصر للغرب وتأثيرات الروافد الأوروبية على تأسيس هذا النشاط الفني، بارجاعه الى احتكاك التونسيين بالآلة الاستعمارية الفرنسية، إلا أننا حاولنا دراسة هذه العلاقة من وجهت نظر ثالثة وهي التراكم الحضاري للتونسي، فسمحت لنا الاتنوسينولوجيا بالانطلاق من الخصوصي الفرجوي إلى المسرحي فإذا المسرحي في جميع تمضهراته فن تاريخي مناقض لقراءات من سحب الـ"لاتاريخية" على الممارسات الحضارية الفنية المسرحية للتونسي دون الخوض في التطور الطبيعي للشعب التونسي وإضافاته ورؤاه لواقعه وآليات تبني هذا الفعل الفني حضاريا، وتجاوزت بعض الدراسات محاولات التأسيس الاولى واعتبرتها جنينية انفعالية انخرطت في ثقافة الغالب والمغلوب لا ترقى للفعل.
إن تأثير الاستعمار وما ألحقه من تغيير في الرؤى والتصورات للدول المولى عليها للعالم وما أنتج ذلك من اختلالات في التطور الطبيعي للمجتمعات المولى عليها وما لحق مؤسساتها من ارتباك وتغيير أنتج رؤى خاصة سعينا في بحثنا إلى استقصائها وتحسس مفرداتها علنا نساهم في تثمين مجهودات من اشتغل في هذا الحقل الفرجوي الفني في التأسيس لفرجة وطنية قادرة على تضمين مشاغل التونسي. 
"الفرجوي والسياسي في تونس" هو سعي لتقصي مجموعة متشابكة ومعقدة ومتداخلة من العلاقات جمعت أطراف عدة:
اولى، جمعت الباي والبلاط والاهالي التونسيين بادواتهم التعبييرية المتعددة فاذا البلاط متعدد وإذا الاهالي كذلك وإذا بسعينا لتقصي هذه العلاقات فيما بينها اشكالي.
ثانية، جمعت التركيبة الاجتماعية لتونس بماهو فني فرجوي سعيا لتقصي السياسي فنستدعي ماهو ثقافي واخلاقي وديني ليزيد الموضوع في الاتساع والتعقيد 
ثالثة، مجهود تحليلي وتجميعي لتمثل رؤية للعالم مميزة للتونسي 
ان محاولة تحديد ملامح رؤية التونسي للعالم مغامرة لا تخلو من مخاطر ومطبات ولا تكتمل مهما حاولنا حصرها وتحديد ملامحها إلا أن إقرار وجود رؤية خاصة والسعي لحصر ملامحها هو محاولة لتحديد نقطة ارتكاز افتراضية منها ننطلق نحو متغيرات لاحقة اقتصادية وسياسية ومتحولات اجتماعية.
مثل التدخل الاستعماري في شؤون البلدان المولى عليها حدثا بارزا غير ملامح المجتمعات وأثر في رؤاهم وتصوراتهم الحضارية ونظرتهم لانفسهم لتتصاعد اصوات متسائلة واخرى متوجسة ومنها الرافضة وقد تنبت اخرى وتذوب الا انه من الجدير بالملاحظ ان هذا الاستعمار طرح فكرا وفعلا اشكاليات لا نهائية تتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمر بالشعوب المستعمرة الضعيفة. ومن بين هذه الاسئلة والإشكاليات نذكر الافتراضات التالية:
 كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ 
كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة المختلفة؟  
كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ 
كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة؟ 
إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا؟ 
هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الجادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار؟ 
من هنا نبعت محاولة فهمنا وقراءتنا لفكر المعمر في تعامله مع المستعمر، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. فعملنا على تتبع الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية تفكيكا وتركيبا وتقويضا، بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.
جاء بحثنا في علاقة السياسي بما هو فرجوي لتبيان العلاقات المتداخلة بين المجتمع، والتاريخ، والنصوص، وفهم الدور الثقافي الذي قام به المستعمر في تونس.
تسلحنا بآليات التفكيك والتقويض لتشتيت المقولات المركزية التي انبنت عليها حضارة فرنسا الاستعمارية.
انها محاولة قراءة للفكر المستعمر في تعامله مع منجزات التونسي الحضارية والفرجوية الفنية، من خلال مقاربة متعددة بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية.
 فهل من الممكن ان ننظر الى الفن المسرحي كفن استعماري وافد فرضه الوضع السياسي الاستعماري ونكتفي؟
ام اننا يمكن ان نتتبع خطا حضاريا رفيعا صاحب التدخل الفرنسي في تونس ليصبح الفن المسرحي مواصلة للتطور الطبيعي للفكر التونسي وما الاستعمار الا متغير متحول رغم أهميته يبقى محدود التأثير وان ديناميكية الانسان التونسي انتقلت من تصور لاهوتي للعالم الى اخر أكثر موضوعية؟
أليست صفة البلاد والمجتمع والفكر التابع ستجد حدود لها رغم واقعيتها؟ 
فنرصد علاقات تفاعلية ميزت الفكر التونسي في ديناميكيته مع المستعمر، سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري.
---------------------------------------------------------------------------
 1 - تمتد فترة ما بعد الحداثة (Post modernism) من سنة 1970 إلى سنة 1990. ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ما بعد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية. وقد جاءت ما بعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديما وحديثا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والصوت، والعقل...وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الإيديولوجيا البيضاء، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب ما بعد الاستعمار....
2  - يعتمد النقد الثقافي على مصطلح النسق المضمر، وهو نسق مركزي في إطار المقاربة الثقافية، على أساس أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة، فالنسق الجمالي والبلاغي في الأدب يخفي أنساقا ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، ليس في الأدب سوى الوظيفة الأدبية والشعرية، فهناك كذلك الوظيفة النسقية التي يعتني بها النقد الثقافي. (انظر في هذا الشأن: عبد الله الغذامي وعبد النبي اصطيف، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2000، ص31)
3 - فينيست ليتش، النقد الأدبي الأمريكي، من الثلاثينيات إلى الثمانينيات، ترجمة، محمد يحيى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 2000، ص 410
  4 - فاطمة المرنيسي، شهرزاد ترحل الى الغرب، المركز الثقافي العربي، الفنك، الدار البيضاء، بيروت، 2003، ص17
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون