من عروض ايام قرطاج المسرحية: العرض الفلسطيني"حكاية زهرة"... حكايا امراة تبحث عن الذات في زمن الحرب.
2021 ,17 كانون الأول
رسمي محاسنة: صوت العرب – تونس.
على مسرح الفن السابع، قدمت المخرجة الفلسطينية"رائدة غزالة" عرضها المسرحي "حكاية زهرة" ضمن مشاركتها في المسابقة الرسمية لايام قرطاج المسرحية في دورتها 22.
منذ لحظة دخول المسرح تستدعي الذاكرة بيروت – الحرب الاهلية، وقبل الاعلان عن مكان وزمان احداث المسرحية"بيروت 1976" فان هذه اللحظة العالية تحضر بقوة مشحونة بذكريات الحرب الاهلية اللبنانية، حيث "الدشم والمتاريس" والستائر التي تمثل بنايات بيروت المحملة بغبار الحرب، ورصاص امراء الحرب، وثلاث نوافذ باتجاهات مختلفة، تطل على المشهد الكارثي،وتنفذ منها اصوات وابواق حرب مازالت اّثارها باقية بجروح على خد بيروت وفي نفوس البشر.
"زهرة"" ياسمين شلالدة" تقف على مقدمة حافة المسرح،تطحنها الذكريات، تقظم اظافرها،تعيش دوامة من الاسئلة،يحضر ماضيها المحمل بالقهر،فهي العائدة من افريقيا بعد زواج فاشل، وواجهاض وتحرش احد الاقارب بها، وفي اللحظة الراهنة – لحظة بيروت- تستمر معاناتها، حيث حرب قذرة في الخارج، وحرب "عائلية" في الداخل، باصرار والدها على تهشيم شخصيتها،ونعتها باوصاف سيئة، والام تتمنى لو انها بقيت في افريقيا.
الشباك على زاوية المسرح، هو النافذة التي تطل منها "زهرة" على الخارج،والتي تتعرض دائما من عائلتها الى التوبيخ بسبب رغبتها لمعرفة مايدور في الخارج،وفي الخارج لا شيء سوى الحرب والاقتتال والخراب في المكان والانسان، هذه الحرب هي البيئة التي تقدم المسرحية رسالتها من خلالها، حيث ان المرأة هي ابرز ضحايا الحرب،وهي الاطار الذي يحاصرها بكل اشكال التهميش والاقصاء،وديكتاتورية الذكوره،وممارسة كل اشكال التعنيف الجسدي والنفسي.
لكن"زهرة" تبحث عن مكان لها،والاسم هنا يحمل دلالة رمزية،بالازهار وسط الخراب، وكان رفضها للخروج مع والدها ووالدها الى احدى القرى البعيدة عن المدينة،هو اولى محاولات الاستقلالية، حيث المكان يصبح لها وحدها،وتستطيع ممارسة حريتها بعيدا عن حصار العائلة.
ويتفتح قلب "زهرة" على الحب المشتهى،من خلال القناص الذي يتربص بالاشخاص على غير هدى،وهذا هو الخيار المتاح امامها، ففي زمن الحرب لاتملك ترف الخيار الصائب،وفي محاولة منها للدفاع عن علاقتها بالقناص،توهم او تقنع نفسها، بانها كلما كانت معه فترة اطول، كلما تقلص عدد الاشخاص المرشحين للقتل ببندقية حبيبها القناص، فهكذا هي حسابات الحرب، لاتخضع لمعايير،ففي رحلة بحثها عن ذاتها،وتلبية لغريزة الامومة عندها ،وتعويضا عن الزمن الفائت من الاضطهاد، تجد في "القناص"، الحبيب والملاذ،ومعايشة لذة الحب، فكان ان حملت منه.
"زهرة" طوال العرض تستدعي ذكرياتها الماضية،وتتحمل قدر ماتستطيع عذابات حاضرها،وتطرح الاسئلة الجارحة عن هذا العبث والجنون حولها، تناقش شقيقها الذي ارتهن لموقف ملتبس،واصبح بيدقا في اصطفافات الحرب القبيحة.
وتسعى"زهرة" الى العيش حياة فيها ولو الحد الادنى من الكرامة كاي شخص طبيعي، لكن يصطدم حلمها في جدار حرب عبثية مجنونة،وكما كانت ضحية في زمن السلم مع زوجها السابق وحرمانها من الامومة،وتلويث اسمها وسمعتها، وضحية تحرش خالها،وعودتها وهي تحمل كل خيبات الدنيا الى عائلتها في بيروت، لتجد نفسها ضحية في زمن الحرب، فلا مكان للاحلام في زمن الرصاص، وتكتمل دائرة المأساة، بهذه النهاية التي تحمل كل الوجع الانساني، عندما يطلب منها حبيبها "القناص" ان تجهض الجنين، ولاحقا تسقط برصاصة منه،بعد ان اعطته افضل ماعندها بصدق على امل الخلاص.
امسكت المخرجة"رائدة غزالة" بعناصر العرض المسرحي، بدءا من النص الذي ينتمي للرواية الاصلية،الذي اخذت منه مايخدم فكرة العرض الاساسية،في حوارات رشيقة بعيدا عن اللغو او الشعارات،ومشهدية مسرحية محملة بالدلالات،التي تضع المتلقي في اجواء الحرب، وتنقل لنا الحالة النفسية للشخصيات في ايقاع متماسك،واستخدام للاضاءة سواء بما تحملة من دلالة المكان وقتامة الاحداث، او من حيث توظيفها لانتقال الشخصيات من مكان الى اخر.
وفي التمثيل قدم الممثلون اداءا مميزا من حيث فهم الشخصية ودواخلها ونوازعها والمؤثرات التي تشكل سلوكها، وتاثير المكان عليها، حيث تبرز " ياسمين شلالدة" بدور زهرة منذ لحظة البداية وحتى مشهد القتل الاخير،في تجسيد لواقع الشخصية بكل احزانها ولحظات الفرح القليلة في حياتها، دون ان تقع في المونوتون او هبوط الايقاع،وكذلك الفنانة" ايمان عون" بخبرتها وموهبتها،كانت حاضرة بقوة في الحركة وطبقة الصوت،في اداء متقن لدور الام. وكذلك بقية الشخصيات"محمد الباشا"،في دور الاب ودور الاخ – المقاتل- الذ وضعنا امام اسئلة صعبة في زمن صعب، وكذلك  وميلاد قتيبة" القناص الذي جسد الدور بوعي وفهم لابعاد الشخصية.
 
2023 © جميع الحقوق محفوظة - صوت العرب للسينما والثقافة والفنون